شهادة الأمير الحسن بن طلال |
|
في ضمير الفكر العربي المعاصر لروابط الفكر والروح والوجدان قوة على مُغالبة صروف الزمان، التي تؤول أحيانا كثيرة بالعلائق بين الناس إلى تغير وتبدل، أو إلى زوال. فهذه "الروابط" باقية ممتدة الجذور ما بقيت خلواً من شوائب الآنيّة والمصلحيّة والدنوّ من الماديات، وبما لها من مكوّنات الأصالة والتسامي، التي ترتفع إلى مراتب تتجاوز الخاص الضيّق إلى آفاق رحيبةًٌَُ؛ لتثمر ثمراتٍ من خيرٍ وصلاحٍ لبني الإنسان كافة. وما كان يربطنا، وسيظلّ إلى ما شاء الله، بذكرى الأخ والصديق، والمفكّر الإنسان، الأستاذ الدكتور عبد الهادي بوطالب، رحمه الله، هي تلك الروابط النقيّة السامية، الذي كان هو نفسه، في سيرته الغنية، نموذجا مشرقا لمقوّماتها، بوطنيّته المخلصة، وعروبته الصادقة ونظرته إلى المملكة الأردنية الهاشمية كبلد رباط لقضايا العرب والمسلمين، ولعل لقاءه في عام 1947 بجدي المغفور له جلالة الملك المؤسس عبد الله الأول يبرهن على مكانته في قلوب الهاشميين وإيمانه بحجم تضحياتهم وحرصهم على العمل العربي المشترك. الحديث عن المرحوم بوطالب وخصاله لا ينضب، فقد كان رحمه الله ينظر إلى الهجرة بين الشعوب مصدر غنى وتواصل إنساني، كما أن تمثّله المستنير لوسطيّة الإسلام وروحه الحضاريّ وللقيم الإنسانية العليا، وبما هو في جوهر شخصيته، أصلا، من خٍصال وصفاتٍ وسِمات عمادُها الحكمة والتبصُّر والاتزان، وفي مقدّمتها شجاعة الرأي وأصالته، ونُبل الموقف وثباته دون تحجُّر، واحترام الرأي الآخر وحرية الفكر بلا أدنى تعصب وانغلاق، وسلاسة التفكير والتعبير والخطاب، وتفضيل الحوار الهادئ الهادف، والنأي عن الخطابيّة والمهاترات. عرَفناه، رحمه الله، على امتداد عقودٍ طويلة بهذه المزايا وبهذه الشخصيّة الفريدة. وما كانت السنين تمرّ إلاّ لتزيدنا إعجاباً به مفكِّراً عالماً؛ عاملا لرفعة بلده المغرب الشقيق وازدهاره، بعد أن ساهم في شبابه بالنضال من أجل تحررّه واستقلاله؛ وساعياً لصلاح أمتّه العربية والإسلامية ووحدة كلمتها؛ ناشداً عزّها وكرامتها وإعلاء مكانتها ومستقبلها الذي تستحقه بين الأمم؛ ومعتزّا – عن علم ودراية ونظر- بكنـزوها الحضاريّة ومنها تراثها اللغويّ العريق؛ مؤمنا بقدراتها وإمكاناتها على تخطّي الصعاب؛ ومتمسكاً بشرف رسالتها الإنسانية. وإذا كانت قيمة الإنسان تُقاس بأثره وتأثيره، فإن للراحل الكبير الدكتور عبد الهادي بوطالب في ميزان الفكر والعلم والثقافة عموماً قيمة عظيمة، والزمن القادم كفيل بالكشف عن المزيد من جوانب عظمتها؛ بما اختزنته آثاره الفكريّة من رؤى مستشرفة للمستقبل، ونظرات مستوعبة لقضايا العصر وتحدّياته وأزماته. وقد كنّا نجده دوماً، وعلى الرغم من أعباء عمله السياسيّ، مُبادراً نشطأً إلى معالجة هذه القضايا في كتاباته، وتحليل معطياتها، وشقّ الدروب لفهم أبعادها؛ مُستعيناً بركائز تجاربه الحافلة والمتنوّعة، وثقافته الموسوعية الجامعة، ودأبه في البحث والاطلاع ومتابعة التطورات والأحداث والجديد من الأفكار. إنّ منهج التأصيل الذي اتسمت به مؤلّفاته في حقول السياسة والقانون والفقه والاجتماع، وكذلك في اللغة والأدب، وفي الوقت نفسه عصريّة الطرح ووضوح التفكير والرؤية والهدف، مكّناه من الخوض في دهاليز موضوعات ذات طبيعة جدليّة شائكة أحيانا مثل ما تعرض له في كتبه: "بين القومية العربية والتضامن الإسلاميّ"، و"نظرات في القضيّة العربيّة"، و"بين القومية العربية والجامعة الإسلاميّة"، و"الحكم والسلطة والدولة في الإسلام"، "ومن قضايا الإسلام المعاصر" بجزأيه، و"في نقد العولمة: العالم ليس سلعة"، و"نحو عولمة أخرى أكثر عدلاً وإنسانيّة"، وغيرها. وأحسَب أنه – مع هذا كلّه – يصعبُ الفصل بين شخصيّة بوطالب السياسيّ والوزير ورجل الدولة، وبوطالب المثقف والأكاديمي والكاتب الأديب، فهو مزيجٌ متكامل من روافد وعناصر متعددة، تداخلت وتفاعلت وانصهرت مع بعضها بعضاَ لتؤلِّف منه شخصية غنيّة التكوين، تُعدّ من أبرز الشخصيات العربيّة في هذا العصر. لقد عرَفناه في ما مضى من الأيام في الأردن، ومنذ عهد شقيقي المغفور له الملك الحسين بن طلال، الذي كان يكن له أسمى مشاعر التقدير والاحترام، من أقدر السياسيين العرب في المغرب العزيز على معالجة الشؤون العربيّة ومتابعة ملفّات العالم العربيّ والإسلاميّ، التي كان يعهد بها إليه المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني. ونِعمَ الثقة التي أولاها جلالته لبوطالب مستشاراً ومبعوثاً خاصاً ومُكَلَّفا بما سمّي يوماً بملف "تنقية الأجواء بين الإخوة رؤساء الدول العربيّة". ولا أنسى إسهاماته الفكريّة والعلميّة الجليلة من على منابر المجمع الملكيّ لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت)، الذي كان عضواً فيه منذ تأسيسه 1982، ومنتدى الفكر العربيّ، وإسهامه الطوعيّ بأريحية في مجلس أمناء الهيئة الخيريّة الأردنيّة الهاشميّة للإغاثة والتنمية والتعاون الدوليّ والإسلاميّ. رحم الله صديقنا الراحل الكبير الدكتور عبد الهادي بوطالب، الذي كان أحد دعائم التعاون والتواد بين الأردن والمغرب، وصانع جسور التواصل والتلاحم بين مشرق الوطن العربيّ ومغربه، ووفق المولى الأخ الأستاذ مجيد بوطالب ومن معه من القائمين على "مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري" في ما هم بسبيله من المقاصد النبيلة، والسيرعلى خطى من حملت المؤسسة اسمه وترسمت معالم فكره ورؤاه. فما أحوجنا في هذا الزمن الصعب بتقلباته وتحولاته، إلى هذه المؤسسات التي تعوضنا فقدان العلماء والمفكرين الذين رحلوا إلى جوار ربهم، وتحرص على إضاءة سُبل العقلانية والمنهجيّة العلميّة ورشاد الرأي في خضم التيارات المتطاحنة في عالمنا المضطرب. والله من وراء القصد. |
ندوة فكرية في موضوع "قراءة في المسار السياسي والفكري للأستاذ عبد الهادي بوطالب" الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 |
عبد الهادي بوطالب بين السياسة والديبلوماسية الأربعاء 24 أبريل 2024 |
في الذكرى 14 لوفاة الأستاذ الكبير عبد الهادي بوطالب الجمعة 15 ديسمبر 2023 |
رواية الأستاذ عبد الهادي بوطالب "وزير غرناطة" في ندوة علمية بفاس (الأربعاء 17 ماي 2023) الأربعاء 24 مايو 2023 |
قراءة في مذكرات الأستاذ عبد الهادي بوطالب (ندوة فكرية)بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته. (السبت 14 دجنبر 2019) الثلاثاء 14 مارس 2023 |