شهادة الدكتور محمد سبيلا |
|
مداخلة الدكتور محمد سبيلا ظلت السمة الأساسية التي تطبع الفكر الإسلامي في المغرب كونه بالدرجة الاولى يعكس موقع المغرب في الطرف الأقصى للعالم الإسلامي. حيث ظل المغرب وتاريخ المغرب في مواجهة دائمة مع القوى المسيحية المهاجمة له. وهذه السمة قد جعلت الفكر المغربي إلى حدّ ما منغلقا، يعيشُ على ما يأتيه من الشرق، ويستثمره في موقعه الدفاعيّ عن الإسلام في حدوده القصوى، وفي مواجهة العالم المسيحيّ. وقد اتّسم هذا الفكر، في مُجمله، بأنه فكر تلقّ واجترار وتكرار وتلخيص وتهميش على المتون الأساسية، باستثناء بعض الصفحات المشرقة التي ارتبطت بازدهار الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس، أو بوَميض بعض العبقريات المنتمية إلى الفضاء المغربي، أو المغاربي إذا شئننا ، ابن رشد وابن خلدون وابن باجة والشاطبي وغيرهم. وقد انعكست نهضة الشرق الإسلامي العربي على واقعنا السياسي والثقافي من خلال بعض مظاهر التواصل الثفافي عبر الجرائد والمجلات أو الكتب أو عبر أجيال الدارسين المغاربة في الشرق، أو عبْر تفاعل بعض رواد الحركة الوطنية مع النهضة في المشرق، وتمثله لبعض الأفكار النهضوية المتمثلة في ضرورة تجديد الفكر الإسلامي، والقبول بمظاهر الحياة العصرية، ومحاربة البدع والطرقية، كما تجلى ذلك عند علمائنا الأفذاذ، منهم على سبيل التمثيل: أبو شعيب الدكالي، علال الفاسي، عبد الله إبراهيم، المكي الناصري، وكذلك أستاذنا الدكتور عبد الهادي بوطالب. لكن هذه الكوكبة من الشخصيات الثقافية والسياسية الوطنية، الحاملة لهمّ نهضويّ، ولفكْر إسلامي تجديديّ، سرعان ما ارتمتْ في حمأة العمل السياسي التنظيميّ والنضاليّ، ضد الاستعمار، ومن أجل تحقيق الاستقلال، وبناء الدولة المغربية الحديثة. هذه الكوكبة من مثقفينا سرعان ما ساهمتْ أو انخرطتْ في سيرورة النضال السياسي بمخاضاته وتجاذباته الإيجابية والسلبية في مرحلة الاستعمار، وبعدها في مرحلة الاستقلال. بل إن الصراعات السياسية الشرسة، التي عاشها المغرب في السنوات الأولى للاستقلال، قد امتصّت رحيق هذه الجذور التنويرية في وجْهيْها الشرقي والغربي، بسبب استقطاب الصراع السياسي لكل أشكال الصراع الأخرى، وتسخير كلّ الجهود والطاقات والصراعات لصالح الصراع المركزيّ السياسي. وقد اتسمتْ هذه المرحلة بمفارقة تمثلتْ في ممارسة أقْساط مَقيسة في التحديث السياسي تحت شعار "بناء الدولة الحديثة" مع الحرص الشديد على ممارسة وإذكاء نزعة ثقافية محافظة، وتقليدانية قوية في المجال الثقافي والتعليميّ. وقد تطلّبتْ طبيعة الصراع آنذاك، مع فصائل اليسار، ومع بعض الفصائل التحديثية منَ الحركة الوطنية، إذكاء ودعم وتكريس فكر إسلامي تقليديّ كان متناغما مع محدّدات المرحلة على المستوى العالمي، المتمثلة في قيام الغرب بتعبئة وتسخير العديد من دول العالم الإسلامي، ومن بعض رموز الفكر الإسلامي المحافظ لمحاربة الشيوعية والفكر الشيوعي. ونتيجة لهذه العقود من التوجه السياسي، وانعكاساتها بشكل واضح على مجال الثقافة والتعليم، والتي قادتْ إلى توجيه النّخب المتعلمة في مجتمعنا نحو فكْر تقليدي منغلق، انتبهتْ النخب السياسية فيما بعد، الرسمية والحزبية، إلى مخاطر النزعة التقليدانية، وإلى ضرورة مراجعة هذا التوجّه الذي بدا مرّة أخرى أنه متناغم مع متطلبات واستراتيجيات خارجية. إلا أن هذه الحاجة التاريخية الموضوعية إلى التجديد، وإلى تحديث الفكْر والتصوّرات، لا فقط إلى تحديث المؤسسات والتنظيمات والتقنيات، هذه الحاجة لمْ تجدْ لها من رصيد إلاّ لدى بعض النخب التحديثية التي ترعرعتْ على هامش النظام الثقافي والتعليمي السائد، ولدى بعض بقايا الثقافة الإسلامية ذات المنزع النهضوي والتنويري. في هذا السياق، تبرز مساهمات العلامة الدكتور عبد الهادي بوطالب، في مراحل تطوّره وإنتاجه. وبخاصة في المرحلة الثانية حيث برزتْ كمواصلة للتيار النهضوي التنويري الذي مثله الجيل الأوّل من رواد الاستقلال، من السّاسة والمثقفين، وجاءتْ كاستئناف فكريّ لهذا الدور التنويري الذي أصبحت الحاجة ماسّة إليْه، مع جنوح المجتمع والثقافة نحو المحافظة وتنامي التقليد، ونشوء وتنامي اتجاه سياسي عارم يستمدّ مرجعياته إمّا من إسلامي آسيوي، أو من ثقافة الوليمة النفطية، أو من تراث الفكر الإسلامي المتشدّد التي نعرف جيّدا مراكزها ومنابعها. يتسم التدخل الفكري للعلامة الدكتور عبد الهادي بوطالب بنزعة تجديدية واضحة في عدة مجالات، من القانون إلى الفكْر الإسلامي وغيره. إن المسلّمة الأساسية التي هي بمثابة منطلق لكل تجديدات الأستاذ بوطالب هو الفهْم المنفتح للإسلام، وهو فهم يناهض كلّية منطق أولئك الذين ارتكزوا على الإسلام لتطوير استراتيجة رفض العالم الحديث، والفكر الحديث، والتركيز على تعارض الإسلام مع كلّ ما هو حديث. يميز الأستاذ بوطالب بين الإسلام الذي هو متْن روحي ولغوي ثابت، وبين المفاهيم والقراءات المختلفة، بل والمخالفة أحيانا للمتن، موسّعا دائرة القبول والحوار والتفاعُل، سالكا نفس الدّروب التي سلكها النهضويّون العرب الأوائل كجمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، والذين صوّروا الإسلام كقدرة فكرية هائلة على التطوّر والقبول بالعالم الحديث. ومن زاوية أخرى، فإنّ هذا الموقف الانفتاحيّ، الذي يطور ويعزز الوجه الإيجابي والمنفتح للإسْلام وقدرته على استيعاب ومواكبة كلّ أشكال التطوّر البشري في جميع الميادين. وسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض المعالم لهذا الفهم أو التفسير أو التأويل المستنير للإسلام كما نجده في كتابات أسْتاذنا الدكتور عبد الهادي بوطالب: 1. الدفاع عن فكرة المساواة بين المرأة والرّجل، ومناصرة حقوق المرأة في الولاية والتدبير والملْكية والحضانة وغيرها. وقد مكنّته خلفيته الفقْهية، وثقافته القانونية العصرية، وتجربته السياسية الواسعة، من دعْم وتطوير التأويل العصري لحقوق المرْأة في مواجهة القراءات والتأويلات المحافظة. وقد ساهمتْ مواقفه وكتاباته وتدخلاته في شرْح وتيسير والدفاع مدونة الأسرة كما هو معروف 2. الدعوة إلى القبول بأساسيات الحداثة السياسية من داخل الفكر الإسلاميّ نفسه، واعتمادا على نصوصه. والحداثة السياسية في نظره إنما هي تنظيم الحداثة السياسية على أساس تعاقديّ يمثله الدستور الذي يضبط أساليب الحكم، ويضبط حقوق وواجبات الحاكمين والمحكومين، ويقي من كلّ عسف وشطط في امتلاك واستعمال السلطة. وكذا انتخاب واختيار الحاكم، والمشاركة الواسعة في العملية السياسية، والمحاسبة والمراقبة وفصْل السلط وتداول السلطة وغيرها من العناصر التي يفيض الأستاذ بوطالب في شرحها في العديد من كتاباته. لكن، بما أن الحداثة السياسية مفهوم واسع من الناحية الإيديولوجية، بحيث يشمل الليبرالية والاشتراكية وحتى بعض مظاهر النزعة الفوضوية، فإنّ الدكتور بوطالب، وبخاصة في مرحلته السياسية والفكرية الثانية، يميل بشكل قويّ وواضح نحو الليبرالية السياسية التي هي أبرز ملْمح للحداثة السياسية. وهو يبذل جهدا كبيرا في إبراز ملامح الحداثة السياسية، لكنه في نفس الوقت يبذل جهدا في تحليل وتتبّع بعض مظاهر ثقافة الحداثة التي تشكّل السند الفكري الأساسي لليبرالية السياسية، كما هو الأمر بالنسبة لثقافة حقوق الإنسان وغيرها. وبذلك يكون الأستاذ بوطالب قد ظلّ وفيا للتراث الليبرالي لحزب للشورى والاستقلال، الذي أطلق على نفسه فيما بعد اسما آخر، والذي كان أوّل حزب دعا بشكل قويّ إلى ثقافة الحداثة السياسية مُمثلة في الدستور والديمقراطية. 3. مناهضةُ كل مظاهر التطرف، الناتجة عن المغالاة والتزمّت في فهْم الدين. ذلك أنّ كتابات الأستاذ بوطالب طافحة بالقول بأن الإسلام دين الاعتدال والوسطية والتيسير والتسامح، وبأنه ضد المغالاة في الدين، وضد التنطّع، أي ضد تجاوز الحدّ في فهم الدين. فالتطرف والتشدد يعبّران عن رؤية ضيقة، وعن رؤية ثنائية تبسيطية واختزالية تتجه بسرعة إلى تقسيم العالَم إلى فُسطاطيْن وعالمين: عالم الكفر وعالم الإيمان. وهي فكرة تجعل العالم كله ضدّنا، أو تجعل العالم الإسلامي ضد العالم كلّه. لكنّ أخطر نتائج التطرف والتشدّد وضيق الرؤية، في نظر الأستاذ بزطالب، هي النتائج العملية المترتبة عليها حتْما، أيْ العنف الأعمى أو الإرهاب الذي هو، في نظره، حركة عبثية يرفضها القانون والأخلاق والعقل السليم وحتى التعاليم السماوية. والأستاذ بوطالب، في تحليله لظواهر التطرّف والتشدد والإرهاب، لا يكتفي بالإدانة، بلْ يبحث أيضا عن العلل البعيدة، ويفكر في الحلول الملائمة لها. فالتطرف المؤدي إلى ممارسة العنف هو نتاج الجهل والفهم السيّء للنصوص والأدلجة الميكانيكية، والتأطير الذي تمارسه بعض الفئات. كما أنه بدرجة أخرى نتاج للعطالة والبؤس والجوع والحرمان. لكنه ربّما بدرجة أولى نتاج للتاطير المذهبي وغسل الأدمغة من طرف بعض التنظيمات. وهكذا، يقدّم الأستاذ بوطالب، بصدد نظرية التطرّف والإرْهاب، تفسيرا ثلاثيا مركّبا لظاهرة العنف والتطرّف، بإرجاعها أوّلا إلى الظروف والمسبّبات الاقتصادية والاجتماعية. وهو في نظره تفسير غير كاف ولا واف ولا شاف لوحده. لذلك يرجعها ثانيا إلى انْخفاض المستوى الثقافي، وهيمنة الخصوصيات والتفريعات والشكليات. ثم يرجعها ثالثا إلى التحريض التنظيمي الإيديولوجي الذي تقوم به بعض التنظيمات الحَرَكية. وفي هذا السياق تندرج إدانته للتطرّف المتحجّر الذي تمثله بعض الاتجاهات الإسلامية التي أحدثتْ دويّا في العالم، حيث يقول عن رائد هذا الاتجاه بأنه لا يشكل مرجعا في الإسلام، ولا يتمتع بالأهلية لكيْ يكون مرشدا أو مفتيا أو موجّها للأمة، ولا يشكّل بأي حال مرجعية إسلامية. كما يرى أن النزعة الحركية الجهادية هي في الأساس حركيّة فكر إسلامي متحجّر، محكوم بتصورات القرون الغابرة، أيْ بثقافة عصور الانحطاط الإسلامي 4. الاجتهاد والدعوة إلى الاجتهاد. إن نصوص بوطالب مليئة بإبراز أهمية الاجتهاد والدعوة إليْه، بل وممارسته. فالعالم الإسلامي، كما يقول، أشدّ ما يكون اليوم حاجة إلى فتح باب الاجتهاد من أجل فهم النصوص الدينية فهما متفتحا، وقرائتها قراءة جديدة أرشدَ وألْصق بمقاصد الإسلام ورسالة الهداية والتنوير الفكري والخُلقي التي هي أصل رسالة الإسلام. ويبين بوطالب هنا أن الفريضة الغائبة ليست هي الجهاد، كما تقول الحركات الجهادية، بل هي الاجتهاد وإعمال العقل والفكْر النقدي في فهم كل الظواهر والنصوص فهما عميقا بعيدا عن أية اجترارية نُصوصية حرْفية ضيقة. زكثيرا ما نعثر في كتاباته على انتقادات للتطبيق الحرفيّ لأحكام الفقه. وإشاراته المستمرة للجمود الفكري للفقهاء والاقتصار على الاقتباس الحرفي من النصوص التي وردتْ في كتب الفقه القديمة، بدون إعمال للعقل ولا تكييفها مع معطيات الواقع. ويرى الأستاذ بوطالب أنّ ميادين الاجتهاد العقلي كثيرة، وهي مطلوبة اليوم في النظام الأسري، وفي النظام السياسي، وفي الديمقراطية، وفي مسألة المعاملات الاقتصادية، وعولمة الاقتصاد والمال والتكنولوجيا والتجارة، وفي قضايا الإعلام والثقافة، وغيرها من المستجدات التنظيمية والفكرية والتقنية التي يداهمنا بها العصر. وأداة الاجتهاد هي الفهْم المنفتح والمتفتّح للنصوص، وإعمال العقل التأويلي المستند إلى معطيات العلوم الاجتماعية الحديثة، وإلى المكاسب المعرفية التي وفّرتها العلوم الإنسانية الحديثة. وذلك انطلاقا من مسلّمة ضمنية أساسية في كتابات الأستاذ عبد الهادي بوطالب، وهي كثافة النصّ الديني ورمزيته العميقة. فالنصوص الدينية في نظره حمّالة معان ودلالات عميقة متعددة يتعيّن على العقل الفاحص، المتحرّر من واحدية المعنى، أن يستخرجها ويفهم من خلالها كل الطارئات والمستجدّات. وهكذا، فمقابل النزْعات الجهادية والقتالية، التي تستشري اليوم في الساحة العربية الإسلامية، يدعو بوطالب إلى إعمال الفكر والاجتهاد. وأخيرا، أودّ أن أثني على هذه البادرة الثقافية لتكريم الأستاذ عبد الهادي بوطالب التي تعبر عن الوعي بأهمية الوعي الثقافي، انطلاقا من أنّ سياسة جديدة ليست فقط تدبيرا وحسابا ومواقف تكتيكية، بل هي أيضا إعمال للفكْر والتحليل والعقل في فهم الوقائع، وفي فحص الأبعاد المختلفة، والجذور الثقافية لمختلف الظواهر. وأودّ ختاما أنْ أثمّن ثقافة الاعتراف التي يمارسها منتدى أصيلة من خلال العديد من التكريمات، ومن خلال هذا التكريم الذي نحتفل فيه اليوم بأحد أعلام الفكر الإسلامي المستنير في بلادنا. وفي ذلك برهان على أنْ ليْس لنا فقط تراث السلفية الجهادية، وثقافة السيف والتكفير، بل أيضا تراث السلفية العقلانية المستنيرة المجددة التي جسدها العديد من رموزنا الدينية، وسليلها العلامة الدكتور عبد الهادي بوطالب. |
ندوة فكرية في موضوع "قراءة في المسار السياسي والفكري للأستاذ عبد الهادي بوطالب" الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 |
عبد الهادي بوطالب بين السياسة والديبلوماسية الأربعاء 24 أبريل 2024 |
في الذكرى 14 لوفاة الأستاذ الكبير عبد الهادي بوطالب الجمعة 15 ديسمبر 2023 |
رواية الأستاذ عبد الهادي بوطالب "وزير غرناطة" في ندوة علمية بفاس (الأربعاء 17 ماي 2023) الأربعاء 24 مايو 2023 |
قراءة في مذكرات الأستاذ عبد الهادي بوطالب (ندوة فكرية)بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته. (السبت 14 دجنبر 2019) الثلاثاء 14 مارس 2023 |