الاثنين 6 يناير 2025
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

شهادة الدكتور ناصر الدين الأسد

كلمة حقّ و وفاء

دأب بعض المتحدثين عن فضائل مَـنْ يتحدثون عنهم على تشبيههم بالبحر، مستشهدين بالبيت المشهور لأبي تـمّـام في قوله :

هو البحرُ مِـن أيّ النواحي أتـيـتَـهُ       فلُجّـتـهُ المعروفُ و الجُـوْدُ ساحلُـهْ

و هو بيت مُـعْـجـِبٌ مُطرِب، طالما اهتززنا له و لبقية أبيات القصيدة. و لكن البيت حصر تشبيهه بالبحر في صفتين من صفات ممدوحه هما: المعروف و الجود، و هما صفتان واسعتان، و لكن البحر أوسع من ذلك و أعمق، و كذلك عبد الهادي بو طالبالذي يحار المتحدث عنه من أين يبدأ و إلى أين يمضي و ينتهي، فهو الأديب ، و السياسي،و القانوني، و الفقيه، و الدبلوماسي، و الاقتصادي. و له في كل ذلك جهود و بحوث، يكفي الحديث عن جانب واحد منها ليستغرق وقتًا طويلاً و قد يحتاج إلى عدد من المتحدثين ليحيطوا بأطراف ذلك الجانب و أبعاده .

ثم إن الدكتور عبد الهادي بو طالب هو الصديق الوفـيّ المخلص الذي يسارع إلى نجدة صديقه و يقف بجانبه حين يحزبه الأمر . و هو – فوق ذلك كله –  المتحدث اللبق ذو الفكاهة المحببة، الذي يسيطر على المجلس بحديثه المتعدد جوانب الثقافة و بفكاهته التي تخفف عن محدّثيه و تشيع الراحة و السرور في نفوس سامعيه، و لطالما صارت دعابته موضع النقل و الرواية عن لسانه في المجالس الأخرى، و هو ينطلق في هذا من سرعة بديهة يَـعْـجَـب السامعون لها كيف واتته على الفور دون افتعال أو تكلف.

 

و له شخصية واضحة في جميع كتاباته، تتمثل في مجموعة من الخصائص، ربما كان من أبرزها:

- الحرص على تحرير المصطلح و توضيح المفاهيم قبل الشروع في بحث موضوعه . فمن ذلك مثلاً أنه في موضوع مشاركته في ندوة أكاديمية المملكة المغربية عن " حق الشعوب في تقرير مصيرها " لم يهجم على الموضوع مباشرة و إنما بدأ بقوله: " قبل تقديم أي تصور عن مفهوم حق الشعوب في تقرير مصيرها – و هو موضوع ندوتنا – يكون لزامًا علينا أن نحدد في البداية مفهوم تعبير " الشعب " الذي يحتويه الموضوع، خاصة و هو يأخذ عدة دلالات، و يُسْـتَـعْمَلُ أحيانًا مرادفًا، و أخرى مقابلاً لتعابيرَ أخرى، ضمن لغة القانون و العلوم السياسية تختلف دلالاتها. و هذا ما يجعل إغفال تحديد كلمة الشعب مُفضيًا إلى أن يبقى حق الشعوب في غموض " .

و لما كان " تعبير الشعب يلتقي في استعمال السياقِ مع تعبيري الأمة و الدولة " كما قال، فقد وجد من تمام تحرير مصطلح " الشعب " أن يتطرق إلى توضيح مفهومي " الأمة " و " الدولة " . و بعد أن يطمئن إلى أن القارىء اتضحت له هذه المفاهيم شرع في بيان  " حق الشعوب في تقرير مصيرها "(1.

و نراه يفعل الشيء نفسه عن " إشكالية العلاقة بين الحكمة و الشريعة " في بحثه الذي عنوانه" أبو حامد الغزالي"(2)فيقول: " و قبل أن نمضي في تسليط الأضواء على هذه الإشكالية،لنتوقف قليلا عند كلمتي الحكمة و الشريعة حتى يتضح مفهوماهما لنستعين بذلك التوضيح على توضيح الإشكالية ذاتها."

- و من هذه الخصائص أيضًا أنه لا يكتفي بملامسة مظاهر موضوعه ملامسة خارجية سطحية، و إنما يعمد إلى تحليله و بيان عوامل الظواهر الاجتماعية و السياسية و استخراج أسبابها . ففي موضوع " شروط التوفيق بين مدة الانتداب الرئاسي و الاستمرارية في السياسة الداخلية               و الخارجية في الأنظمة الداخلية " (1)نراه يختار موضوعًا يدل عنوانه على منهجه في البحث عن الأسباب، و هو " عوامل استمرار السياسة في النظام الرئاسي للولايات المتحدة الأمريكية " . و يتلمس هذه العوامل في نوعين من القيود: قيود دستورية، و يراها نوعين أيضًا: جماعية السلطة السياسية،    و تدخل السلطة القضائية، و النوع الثاني قيود شبه دستورية و يرجعها أيضًا إلى قيدين: الرأي العام و الطبيعة المتميزة للأحزاب السياسية .

- و من أبرز خصائص شخصيته في كتاباته: لغته العالية و أسلوبه المتسلسل، ووضوح أفكاره بحيث تجدهُ في بعض كتاباته يقسم موضوعه إلى فقرات و يجعل كل فِـكْرة في فِـقْرة، و ربما وضع لفقراته أرقامًا عدديـّة ثم جعل لها عناوين و قسمها أقسامًا ميّز كل قسمٍ بحرفٍ أبجدي .

- و من أهم ما يستحق التوقف عنده و الحديث عنه تلك الكلمة الضافية التي ألقاها بمناسبة استقباله عضوًا في أكاديمية المملكة المغربية . فقد جمعت أهم خصائص فكره و أسلوبه . ذلك أنه ذو تطلّع إنساني عالمي من الثقافة و الفكر و المعرفة، و من هنا رأى بانضمامه إلى الأكاديمية ما يمكّنه من المساهمة في تحقيق مهمتها النبيلة بإغنائها الفكرَ العالميَّ برافدٍ جديد غزير يساعد على تقارب الثقافات و يقيم أسس التفاهم و التعاون بين أقطار العالم، لأن اشتمال عضوية الأكاديمية على التنوع العالمي هو تصور لما يدعو إليه الفكر الطليعي البشري من التقاء الثقافات العالمية و تفاعلها .            و الأكاديمية – بتنوع انتماءات أعضائها و تخصصاتهم – تنفتح على مشارب المعرفة دون حدود جغرافية أو حضارية .

و بعد أن يتحدث في خطاب استقباله عن الثقافة الإسلامية          و خصائصها يوجه حديثه إلى الأكاديمية فيقول: " إن هذه الأكاديمية مدعوة للمساهمة في إخصاب الثقافة بالمعنى الواسع الذي يختزن أنبل مضامينها أي بما يعني مجموعة قواعد لتنظيم الفكر البشري، يحدث نشرها في المجتمعات رد فعل إيجابي هادف، ينمي في خلاياها نمطًا من السلوك الخلقي، يصبح حلية المجتمع المنظم التي تقيه من الوقوع في الزيف و الانحراف، و تشده دائمًا إلى هدف التنظيم بتوجيهه في أقوم نهج و أرشد سبيل، مما يلقي على المثقف بهذا المعنى تكاليف الالتزام بهدف ثقافته، و يؤهله عن جدارة لاقتعاد مركز الريادة، و يفسر أسباب و دواعي قيادته، فلا يظل دوره موضوع تساؤل مستمر، إن لم يكن محل إنكار و جحود ."

و يتحدث في كلمته تلك عن حوار الثقافات فيقول: " إن تعدد الثقافات بل و تناقضها أحيانًا يمكن أن يكون إثراء للحضارة الإنسانية        و دولابًا من دواليب تقدمها و رقيها، شريطة أن تعترف كل حضارة بالأخريات، و أن تحترم وجودها و هويتها، و أن تقوم بينها جميعًا علاقات أخذ و عطاء " .

ثم يقول: " و حين لا يتوافر هذا السعي و لا يزدهر بين المجتمعات و الأمم التبادل الفكري و التلاقح الثقافي، و يسود الجهل أو التجاهل للمعطيات الثقافية الحق، ينشأ في بعض المجتمعات مركب الاستعلاء، المؤدي إلى سيادة روح الهيمنة التي تنمّي عند الطغاة سلوكهم الشرير، فتنتشر ابتداء من هذا التصور الخاطىء ظواهر التطاول و الـمَـيْز، و يترتب على جميع ذلك فقدان التوازن الذي يفجر ظواهر الكراهية و الاستعمار و الطغيان و الحروب " .

*     *     *

و كنت قد ألقيت في5/5/1992كلمةً في الندوة التي أقامتها المنظمة الإسلامية للتربية و العلوم و الثقافة ( الاسيسكو ) في الرباط تكريمًا للدكتور عبد الهادي بوطالب بمناسبة انتهاء مدة عمله مديرًا عامًا لتلك المنظمة، ذكرت فيها أن " القارئ المنصف لا يملك إلا أن يعجب بقدرة المؤلف على التحليل الدقيق للعناصر المركّبة، و ربط الحاضر بالماضي البعيد أو القريب لاجتلاء صورة الحاضر و تفسير خفاياه و غوامضه، و لمّ شتات المعلومات المتفرقة و ترتيبها في نسق مطرد، و وضع كل ذلك في إطار من العقلانية و الدقّـة و التحديد و المباشرة في معالجة القضايا و المواقف، و التنبه للعوامل النفسية و الخصائص السلوكية للشعوب " .

و بعد ،

فإنني أعلم أن كل ما ذكرته لا يفي إلا بجزءٍ يسير مما يجب ذكره في حق هذا العالم الأديب المفكر، و أسأله تعالى أن يبارك في عمره و أن يسبغ عليه أسباب الصحة و السعادة و يكتب له التوفيق لاستكمال رسالته.

شهادات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي