كلمة محمد الأشعري وزير الثقافة |
|
كلمة وزير الثقافة محمد الأشعري
باسم الله الرحمان الرحيم أستاذنا الجليل، السيد عبد الهادي بوطالب، السيدات والسادة الأفاضل، اسمحوا لي لكوني لنْ أتدخل بطريقة تسمح لي بتقديم شهادة مباشرة، لكون مسار عبد الهادي بوطالب مسارا سياسيا وثقافيا لجيل سبقنا للمجال الوطني والمجال الثقافي، وشكل بالنسبة لنا جميعا وبالنسبة لجيلي على الأقل مرجعية أساسية، مرجعية بالنسبة للقناعات المشتركة. ومرجعية بالنسبة للأسئلة المثارة. ومرجعية كذلك بالنسبة للقلق الذي يساور كلّ جيل عندما يكون في مواجهة قضايا تهم بلاده وتهم بناء مستقبل شعبه. لذلك. ما سأقوم به ليس شهادة ولكن نوعا من الاستقراء لتجربة ثرّة طبعتْ حياتنا السياسية والثقافية، نوعا من الحوار مع هذه التجربة. وليسمح لي الأستاذ بوطالب أن أحاوره في جملة من النقط التي أعتبره فيها رائدا وأحد السباقين الأوائل الذين ابتكروا مسارا خاصا لمعالجة القضايا الوطنية، وابتكروا أيضا طريقة خاصة للدفاع عن قناعاتهم السياسية والثقافية. وأستحضر باعتزاز أن الأستاذ عبد الهادي بوطالب جاء إلى السياسية من زاوية خاصة، هي الزاوية العلمية والثقافية. إننا نعرف أن الورقة الأولى التي جعلته يدخل إلى الحلبة السياسية هي ورقة التربية. فقد اختاره جلالة المغفور له محمد الخامس مربّيا لوليّ عهده. فقد رأى محمد الخامس، بعد إصلاح نظام التعليم بالقرويّين أن إحدى أماراته الأولى تتجلى في شابّ نجيب تخرّج من القرويين بامتياز، وطبع جيله بتفوقه العلمي، وبتفوقه في مجال التدريس، وكان أصغر مدرّس في حلبة القرويين. فمن هذه الزاوية الأولى أتى عبد الهادي بوطالب إلى المجال السياسي. ومن باب يتحمّل فيه المسؤولية العظمى، وهي إعداد وليّ العهد آنذاك جلالة الملك الحسن الثاني الذي سيتحمّل مؤولية البلاد فيما بعد، إعداده علميا وسياسيا وإنسانيا ونفسيا، لأنّ الأستاذ والمربّي لا يلقن معلومات فحسب، بلّ يلقّن كذلك نمط تفكير ونظاما أخلاقيا. واعتقد جازما بأن رؤية المغفور له محمد الخامس كانتْ رؤية فراسية ترى في الأستاذ بوطالب نموذجا يمكن أن يطبع الخصائص الذهنية والأخلاقية لولي العهد المقبل. كما أن الأستاذ بوطالب جاء إلى المجال السياسي من رحم الحركة الوطنية، ولكن من زاوية خاصة أيضا. فمن داخل الحركة الوطنية، التي من المُفترض أن تكون حركة إجماعية، كان بوطالب ينتمي إلى فئة ترى أن المجال الوطني كذلك يمكن أنْ يكون فيه خلاف في الرؤى، وخلاف في المسارات. وهو انتباه ذكيّ ورائد لأنّ مخاطر الفكر الوحيد ربما تجد تربتها الأكثر خصوبة في القضايا العادلة، والتي لا يأتيها الباطل من بيْن يديْها ولا من خلفها. وقد كان ممكنا أن تكون الحركة الوطنية بهذا المعنى مدعاة لفرض الفكر الوحيد. غير أن بوطالب كان أحد الناس الذين اخترقوا وخلقوا فجْوة في هذا الجدار، واستطاع مع رفاقه في حزب الشورى أنْ يقدّم رؤية أخرى للوطنية المغربية، مقترن بالتفكير في المستقبل. ومقترنة كذلك برفض الاستبداد. أَلمْ يكن شعار هذه الحركة أن الاستبداد ليس أقل خطورة من الاستعمار. وسنرى فيما بعد كيف أنّ هذا الاختلاف كان أيضا مكوّنا أساسيا من مكوّنات مسار عبد الهادي بوطالب. في بداية الاستقلال، سنلتقي برجل في قلب الأحداث السياسية التي أشّرت على بناء المغرب المستقلّ. لقد شارك في الحكومة الأولى الأساسية، وكانت هذه المشاركة دائما دفاعا عن التعددية كذلك. وهذه نقطة لا بدّ أن نسجّلها كسبق أساسي في المجال الفكريّ والسياسي قام به الأستاذ عبد الهادي بوطالب ورفاقه. التعددية لأنّ المسألة لمْ تكن تتعلق فقط بتشكيل الحكومات، والدفاع عن ضرورة أن تكون هذه الحكومات الأولى للمغرب المستقل حكومات تمثّل الحساسيات السياسية المختلفة داخل الحركة الوطنية، ولكن الأمر كان يتعدّى ذلك إلى استحضار التعددية الاجتماعية الموجودة في بلادنا، والتعددية الثقافية لبناء مغرب مختلف عن المناخ الجهوي الذي كان سائدا آنذاك، والذي طبعته التجارب الاشتراكية ذات الحزب الوحيد، أو التجارب القومية ذات الحزب الوحيد كذلك. ولقد رأينا كيف دافع الأستاذ عبد الهادي بوطالب عن هذا المسار التعددي في مواجهة مطلب اتّسم بالكثير من الشرعية في ذلك الوقت، وهو مطلب إنشاء حكومة منسجمة يسيطر عليها بالأساس الحزب الوطني الأكثر تمثيلية وحضورا، وهو حزب الاستقلال. ورأينا كيف أنّ هذا النقاش لم يكن فقط نقاشا سياسيا، ولكنه كان علامة استفهام كبرى في بداية بناء الدّولة المغربية الحديثة. كيف ستتطوّر هذه الدولة؟ هل ستتطور انطلاقا من رؤية سياسية هيمنية ذات بعد واحد؟ أم انْطلاقا من رؤية تعدّدية مبنية على الاختلاف وعلى التنوّع؟ ولا شك أنّ الأستاذ عبد الهادي بوطالب عانى معاناة شديدة، ليس فقط من الناحية السياسية فقط، بل حتى من الناحية الفكرية. وسوف أشير في النهاية إلى سمات يغلب عليها الطابع الإنساني، الروائيّ تقريبا، في هذا المسار المثير للانتباه. سنجد كذلك في بداية المغرب المستقلّ مجالا أيضا لمناقشة عدد من القضايا التي ما تزال مطروحة إلى اليوم. قضايا مرتبطة مثلا بالقضايا الدستورية. أعتقد أنّ الأستاذ بوطالب قد لعب دوْرا أساسيّا في هذا الموضوع ليْس فقط لكوْنه كان وزيرا للإعْلام الذي قضى حوالي 16 يوما يدافع يوميا في التلفزيون المغربي آنذاك عن دستور 1962. ولكني أعتقد أنّ التنظير والرؤية يمكن أن نستحضرها ونحن نتناقش في ظرف مختلف. وفي سياق مختلف جدا ونحن نتحدث عما يمكن أن نسمّيه التعديل الدستوري، أو مناقشة القضايا المرتبطة بتوزيع السلط في ضوء ديمقراطيتنا الفتيّة. أعتقد أن هذا النقاش طبعه الأستاذ بوطالب برؤية ثاقبة. سأترك جانبا المسألة التي كان لها طابع سياسيّ، من قبيل الموقف المعارض للدستور والوصف الذي كان سائدا عند المعارضين بأنه دستور ممنوح، وردّ الأستاذ بوطالب دائما بأنّ هذا الدستور يقدّم إطارا عاما لتطوير الديمقراطية المغربية، وأن الدستور الممنوح هو دستور لا يُعرض على استفتاء شعبي، وأما دستور 1962 فقد كان دستورا معروضا، ومنطوق عرض هذا الدستور على الاستفتاء من طرف المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني كان هو التالي: سأعرض عليكَ دستورا للاستفتاء، فإن قلتَ "لا"، فسأسحبه، وأعرض عليكَ مشروعا جديدا. لذلك، فإن النقاش الذي ساد حول الدستور، وحول المسألة الدستورية، أعتقد انه طبع هذا المسار إلى اليوم، حيث لا زلنا نناقش قضية تنازع السلط بين الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي حول مكانة الوزير الأول في هذه المنظومة. نناقشها دائما انطلاقا من علاقة صياغة نصّ قانوني مع بناء دولة حديثة، وبناء ديمقراطية حديثة. ومن المؤكّد أنّ التراث الذي تجمّع لديْنا منذ 1962 إلى اليوم حول مناقشة القضايا الدستورية يستحقّ اليوم نوعا من المعالجة الشاملة. وهناك قضايا هامّة كذلك ارتبطتْ ارتباطا وثيقا بمسار الأستاذ عبد الهادي بوطالب، سأذكر منها قضيّتيْن أعتبرهما أساسيتيْن هما: القضية الأولى تتعلق بتشكيل النّخب السياسية الوطنيّة، فنحنُ نتذكّر جميعا أن الأستاذ بوطالب وبعض رفاقه التحقوا بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية عند تأسيسه، بل كانوا من مؤسّسي هذا التيّار السياسي الجديد. ويعطي بوطالب نوْعا من التفسير الثقافي لتلك التلقائية التي تمّ بها هذا اللقاء بيْن جناحيْن لمْ يكونا مهيّأيْن للالتقاء بشكل طبيعيّ لكوْن الحزبيْن معا، حزب الشورى وحزب الاستقلال عاشا نقاشا حادّا يتعلّق بقيادتيْهما. ففي كلا الحزبيْن كان هناك نوع من التضايُق والاختناق الذي طبع القيادات، والذي جعل من فكرة الزعيم فكرة معيقة لنمو هذه الأحزاب وتطورها. لذلك كان "التمرّد" على الزعامات التقليدية لهذه الأحزاب نوعا من الحسّ الثقافي لدى عدد من المثقفين والأطر النوعية التي كانت في كلا الحزبين، والتي التقتْ إرادتهما فيما بعد لتشكيل تيّار سياسي واسع. لا أعتقد أن الأستاذ عبد الهادي بوطالب، في مباشرته بحماس وإقدام لهذه الخطوة، كان يهدف فقط إلى تشكيل تجمّع سياسي قوي ملائم لتلك الفترة ولضرورات الصراع في تلك الفترة، ولكنني أعتقد بأنه كان يرى أيضا بأن الخروج من المأزق الذي كان فيه المغرب، في بداية الاستقلال، كان يقتضي تشكيل نخب جديدة. وقد حاول من جهته، ومع قادة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أن يخترق ذلك الجدار السميك والمطبوع بتقليدية ثقيلة، وبزعامات قاهرة. حاول تكوين نُخب جديدة ونشيطة وطموحة ومتمرّدة لها قناعات مختلفة، ولكن لها مقاربات سياسية مختلفة. بطبيعة الحال، وبعد بضعة شهور، سيجد عبد الهادي بوطالب نفسه في موقف دراماتيكيّ لكونه سيضطرّ للانسحاب من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وسيبرر ذلك بنقطتيْن أساسيتيْن: صعوبة اندماج القاعدة الجديدة لحزب الشورى في المشروع الجديد، وكذلك عدم الشفافية في معالجة بعض القضايا من طرف القيادة المشتركة. ولكني أعتقد بأنّ تلك الفترة المطبوعة بغليان إيديولوجي، وباضطراب فكريّ وسياسي جعلت هذا الزواج، السّهل ظاهريا، صعبا في التدبير فيما بعد، وخصوصا صعبا في جعله وسيلة أساسية من وسائل تدبير الدولة. لأن الأمر الذي كان منتظرا من هذا التكثل هو أن يشارك بشكل ملموس في تدبير شؤون البلد بعد الاستقلال. والنقطة الثانية التي كانت مثار اهتمام كبير من طرف الأستاذ في تلك الفترة هو كيف نستطيع تحديث الممارسة السياسية في بلادنا، والقطع مع التقليد المسيطر على الذهنيات والممارسات. كان بوطالب يعي بأن المغرب مغرق في التقليدية، ومغرق في الوفاء لبنْياته التراثية، وان مسألة التحديث ليستء مسألة إرادية بحتة يمكن أنْ يقرر فيها عدد من الناس يشكلون نخبة متطورة. كانت للأستاذ عبد الهادي بوطالب معرفة دقيقة بالتطور الثقافي للمغرب، وبتطور المدن والبوادي والقبائل، كما كان يدرك ما استطاع الاستعمار الفرنسي من تأسيسه من تقاليد جديدة. وكان له حس ثقافي عميق ويعتبر أن التحديث لا يكون صدمة تدميرية، ولا بد أن يكون على مراحل بناء على الإجماع والتراضي، وهما الكلمتان اللتان ستظهران في القاموس السياسي بعد ثلاثين سنة. لقد كان من مؤسسي التسامح حتى مع المعارضين الذي يوجدون في الضفة الأخرى، وحتى وهو يتقلد مناصب سياسية. وأنا أعْرف حجم المعاناة النفسية التي عاناها من أجل أن ينجح المغرب في بناء الدولة الحديثة. يعلّمنا أنْ نعرف كيف ندوس على نوع من الكبرياء لنخلق ظلا وارفا لجميع المغاربة. ومن ثمّ فإن عبد الهادي بوطالب من القلائل، وربما الوحيد الذي اختار أن يخرج من القصر بعد عرض منصب رهن إشارته. اختار أن يعمل من خارج الحكومة لا داخلها. إنها مواقف في غاية الصعوبة النفسية والسياسية. وأنا أحس كذلك بأنه من القلائل جدا الذين يؤسسون لنوع من التفاوض والتسامح والتدرج لبناء مغرب المستقبل، الذي ضيّع المغرب في سبيله الشيء الكثير. وهو درس للأجيال الجديدة. لقد طبع عبد الهادي بوطالب الحياة السياسية لكونه فضل التأمل من خلال الممارسة، لا من اهتمام نظري فقط، بل من انخراط شخصي وفاعل . أما الخاصية الثانية فهي إيمانه بقوة المجال الثقافي. لذلك استمر فاعلا ثقافيا مقتنعا بأن العمق الثقافي لأية أمة هو الأساسي والأنجع. |
عبد الهادي بوطالب بين السياسة والديبلوماسية الأربعاء 24 أبريل 2024 |
في الذكرى 14 لوفاة الأستاذ الكبير عبد الهادي بوطالب الجمعة 15 ديسمبر 2023 |
رواية الأستاذ عبد الهادي بوطالب "وزير غرناطة" في ندوة علمية بفاس (الأربعاء 17 ماي 2023) الأربعاء 24 مايو 2023 |
قراءة في مذكرات الأستاذ عبد الهادي بوطالب (ندوة فكرية)بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته. (السبت 14 دجنبر 2019) الثلاثاء 14 مارس 2023 |
حرب القلم من أجل الاستقلال والديمقراطية في المغرب الاثنين 27 فبراير 2023 |