شهادة عباس الجراري عضو أكاديمية المملكة المغربية |
|
عبــد الـهــادي بــوطــالــب الأديـــــب عباس الجراري عضو أكاديمية المملكة المغربية بسم الله الرحمن الرحيم. سيدي مستشار صاحب الجلالة الأستاذ أحمد بن سودة، أخي الكبيـر، العزيـز، الأستاـذ عبد الهــادي بوطالــب، أصحــاب الــمعالي والسعــــادة، سيداتــي سادتــي. إن سعادتي لكبيرة بالمشاركة في هذه الجلسة التي تقام لتكريم صديق حميم تربطني به علائق محبة عميقة، بالإضافة إلى كونه علما بارزا من أعلام المغرب، بل علما فذا من أعلام بلاد العروبة والإسلام. وقد أتيح لي أن أعرف الأستاذ سيدي عبد الهادي عبر كتاباته المختلفة وأحاديثه المتنوعة، ومن خلال نضاله السياسي الوطني وصدى المسؤوليات الحكومية الكبيرة التي تحملها في وزارات وسفارات وغيرها. ثم سعدت بتعرفه عن قرب، زميلا في أكاديمية المملكة المغربية وفي المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن. من هذه الجوانب كلها تسنى لي أن أقترب من الأستاذ عبد الهادي بوطالب وأن أرسم له في فكري شخصية متعددة السمات، مكتملة الملامح. فهو العالم الباحث، والأستاذ المربي، والفقيه المتمكن، والسياسي الماهر، والمفكر المتعمق، والأديب المبدع. وهو في هذا كله ينطلق من ذهن جريء يتقد حيوية وذكاء، ومن ثقافة أصيلة متينة متفتحة على ثقافات جديدة، ومن سلاسة في التعبير وقدرة على إغنائه وتجميله بالتوريات وما إليها مما ينقاد له، سواء حين يكتب أو يرتجل.
ولو شئت أن أختصر القول في وصفه لقلت إنه نابغة وعبقري وموهوب، يحتل مكان الطليعة بين نوابغ هذا البلد وعباقرته والموهوبين من أبنائه. فقد وقفت على كلمة أنشاها ارتجالا، وهو ما زال تلميذا بمدرسة العدوة لا يتجاوز عمره الثانية عشرة، وهي كلمة لو أمكن لباحث اليوم أن يتأملها ويدرسها ليعرف منها كيف يكون كتابنا في طفولتهم، وكيف تظهر مواهبهم وتبرز قدراتهم لاستطاع أن يستخرج منها أشياء كثيرة.
كان ذلك بمناسبة زيارة والدي رحمه الله لهذه المدرسة عام خمسة وثلاثين وتسعمائة وألف، وهي الزيارة التي وصفها في رحلته "نزهة الاقتباس من خمسة أيام في فاس" لدى حديثه عن مدرسة العدوة ومديرها المرحوممحمد ابن عبد الله وأستاذها السيد محمد بوطالب، ونخبة من التلاميذ هم عبد الهادي بوطالب ومحمد اليمني ومحمد العراقي وعبد القادر بن شقرون وعبد الوهاب بن منصور، ذلكم أنه بعد أن أثار مع هؤلاء الأطفال بعض متعلقات دروسهم، استمع من كل واحد منهم إلى كلمة تحية نثرية أو شعرية. وكان مما قاله التلميذ عبد الهادي : "هب النسيم وسرت في الأفق رائحة الطيب بقدوم الزائر الذي دب في أحشائه نصح النشء من صميم الفؤاد والذي صريمته القعساء في نجاح هؤلاء الأطفال"، وهي كلمة تتم عما ستتفتق عنه موهبة سيتألق صاحبها في شتى مجالات الأدب مما يتجلى في هذه الأنواع والأنماط : 1- أعماله الإبداعية : وسأعود إليها. 2- مقالاته الصحافية، لا سيما تلكم التي كان ينشرها يوميا في جريدة "الرأي العام" تحت عنوان "هذه سبيلي". وقد جمع حلقات منها في كتاب يحمل نفس العنوان. 3- مذكراته التي ما زال ينشرها مسلسلة في صحيفة "الشرق الأوسط". 4- كتاباته القانونية والسياسية.
والآن لا يتسع لتحليل كل هذه الجوانب، فسأكتفي في هذا العرض بإلقاء بعض الأضواء على أعماله الإبداعية، مقتصرا على فنين اثنين هما : الشعر والرواية.
وأبدأ بالشعر، وليسمح لي الأستاذ الكبير سيدي احمد ابن سودة أن أرجع إلى ما قال في كلمته القيمة حين اعتبر أن الأستاذ عبد الهادي بوطالب "كاد أن يكون شاعرا كبيرا" أستسمحه في أن لا أستعمل فعل المقاربة الدال على قرب وقوع الخبر، لأنه بالفعل شاعر.
ولن أنظر إليه أو أضعه في زمرة أولئك الذين ينتمون للمجال العلمي أو للوسط الطلابي في الجامعة القروية أو غيرها، وحين تحضر المناسبة يقولون قصيدة أو مقطوعة في مدح أو رثاء، أو يشاركون في مساجلة أو مطارحة، ذلك كان طوع يد عدد من أقرانه ومعاصريه، حتى ممن لم يكونوا شعراء، ولكني أريد أن ألفت الانتباه إلى شاعريته كما تكشفها بعض الأنماط التي تدل بالفعل على كونه كان مبدعا.
وقد وفقت إلى أن أقف على بعض النصوص التي تبرز سبق الشاعر سيدي عبد الهادي بوطالب إلى بعض المجالات أو الموضوعات التي كانت يومئذ جديدة. وأكتفي بالإشارة إلى نصين اثنين :
الأول من الشعر الوطني. ونعرف أن هذا الغرض كان مطية الشعراء المتطلعين للتجديد. وقد ارتبط هذا النوع من الشعر ببعض المناسبات الوطنية، لا سيما بعيد العرش إذ كان كبار الشعراء يتسارعون لإبراز موهبتهم وللتعبير عن قدرتهم الإبداعية، مازجين بين مدح جلالة الملك وبين الإعراب عن المبادىء الوطنية وما تتطلع إليه الأمة من حرية واستقلال.
في هذا الصدد، وقفت على قصيدة نشرت له سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف، في أول عدد من السلسلة التي كان يصدرها القصر الملكي العامر، متضمنة مختارات من القصائد التي تقال في ذكرى عيد العرش.
حين أتأمل هذه القصيدة أجد الأستاذ عبد الهادي بوطالب يمثل نموذج الشاعر الذي يخوض غمار التعبير الوطني في ذلكم المزج الدقيق بين ما هو مدح وما هو تعبير عن المدلول الوطني. وهنا تكمن عبقرية الشاعر، إذ يقدم شعرا هو في الظاهر شبيه بما كان يلقى في المناسبات التقليدية المعروفة، لكنه في العمق ينطلق من نظر جديد يتحفز فيه من المناسبة وما تقتضيه من مدح، ليحلق في أجواء المعاني الوطنية ويرتبط بالأمة وبالأفكار والعواطف التي كانت تهز الناس وتحرك مشاعرهم. وذلكم هو ما يميز الشعر الوطني بكل ما في هذا الوصف من مدلول وفي نطاق المفهوم الذي كان متداولا –وما زال- للوطنية. وبينه وبين أن يكون شعر مناسبات تقليدي يثار عنصر الصدق وما يتولد عنه من جدة في التعبير، وللصدق ظروف تتدخل فيه عامة وخاصة، لتثير قضية التوفيق بين التجربة والتعبير وأثر التجربة في المتلقين.
ولننظر قليلا في هذه القصيدة. فقد تحدث فيها عن عيد العرش باعتباره عيد القلوب وعيد الحب وعيد الوفاء. وهذا يدخل في المعاني الجديدة التي لم يكن يألفها شعراؤنا من قبل، لأنهم كانوا حين يمدحون يلجأون إلى المعاني المطروقة. لكن أن تربط المناسبة بالقلوب وبمشاعر الحب والوفاء، فذلكم مما لم يكن معهودا.
كل عـام تختال للعـرش ذكرى اتخذتها القلـوب عيـدا أغـرا كل عـام يـردد الشعب ألحــــا ن سرور تفيض حبا وشكرا وتهيم القلوب بالعـرش حــــبا فتصوغ الوفاء والحب شعرا
ثم تحدث عن صاحب المناسبة جلالة المغفور له محمد الخامس، رابطا مدحه بالمعاني الوطنية التي كان الشعب مشبعا بها، وكان هو في طليعة المناضلين من أجلها. فهو يخاطبه بمثل هذه الأبيات :
يا مليك البلاد حق لك الزهــــ ـــو بعــرش أولاك منه الــمقـــــرا جاءك الشعب يرتضيك مليكــا وإمــامـا يعــد للـفوز ذخــــــــــــرا بايع الشعب فيك منقذ جيــــــل وأبـا مشفــقا عطـــوفا أبــــــــــــرا فتحملت عبء ملك جليـــــــل لم تضــق فيه بالمصاعب صــــدرا ولكم صنت حق شعب مهيض راجيــا أن تعـيــد للكـسر جــــبـــرا وقضيت السنين تحمي حمــاه وتـــزودت للـمكــــاره صــبــــــرا وتسلحت بالــعقـــيدة مـــــارا عــك بأس ولا تأخـــرت ذعــــــرا وأشعت الضياء في حالك الليــ ــل ولــكن سيعقــب الليــل فـجـــرا ليس عسر يدوم أن هب شعب لدفــاع لن يغـــلب العســــر يســرا شعبك الحر ذو الكرامة يأبى أن يسام الخنــــوع والـــذل قســـرا
إذنهناك معان جديدة مرتبطة بهذا الجو المفعم بالروح الوطنية. ولعله واضح أن القصيدة –كما يقال- عمودية أو تقليدية، ونحن في مرحلة لا يتحدث الناس إلا عن هذا النوع من الشعر، ومع ذلك فوزنها خفيف، وهي لا تخلو من شفافية ورشاقة، رغم بعض الفخامة التي تظهر من ألفاظها، مما يدخلها في الشعر المحبب إلى القلوب أن تستمع إليه، وأن تستلذه وتطرب له.
أما النص الثاني الذي أريد أن ألفت النظر إليه، ومن خلاله إلى شاعرية الرجل، فهو يختلف اختلافا تاما عن الأول، إذ يمثل قصيدة خاصة، تجعل الشاعر عبد الهادي بوطالب أو تجعل منه الشاعر الذي وضع رجله في خط التجديد. من هنا أقول إنه بالفعل شاعر، ولا أقول إنه كاد أن يكون شاعرا.
هذه القصيدة عنوانها : "آنات طفل" وكانت قد نشرت في مجلة "الثريا" بتونس عام ستة وأربعين وتسعمائة وألف. وهي قصيدة ذاتية تعتمد على التأمل، وتسير في هذا التأمل سيرا بعيدا يربط الشاعر بمدرسة المهجر، لاسيما بالمهجر الشمالي، وخاصة أصحاب الرابطة القلمية أمثال جبران، وإيليا أبي ماضي، وأمين الريحاني، وميخائيل نعيمة. وشاركهم في نزعتهم التأملية هذه بعض شعراء الجنوب كفوزي المعلوف. هؤلاء جميعا كانوا يستبطنون الذات، ويسبرون أغوار النفس الإنسانية، ويصورونها بدقة، ويتحدثون عن الوجود، ويفلسفون الحياة، ويطرحون مشكلتهما، ويبحثون عن المجهول، في سعي إلى السمو والتحليق بالخيال الجامح، وربما غلب عليهم أو على بعضهم روح التشاؤم.
ذلكم ما نجده سمة بارزة لهذه القصيدة المتفردة في وقتها. والحقيقة أننا في مرحلة كان قد بدأ شعراؤنا الذين اتجهوا للتجديد ينشئون قصائد متطورة، سواء على مستوى الشكل أو المضمون.
ويلفت الشك نظر قاريء القصيدة التي جاءت على الخفيف، مع تشكيل إيقاعي جديد. فهي متكونة من مقاطع خماسية شبيهة بتقسيم الموشح والمخمس، تتفق وزنا وتختلف قافية، لا يربط بينها إلا قافية الشطر الخامس، فقد جاءت موحدة في كل القصيدة. وهذا ما جعلها كالنشيد الذي تنتهي مقاطعه بلازمة. وهو من التنويع الذي حاوله شعراء التجديد في أبولو والمهجر، وعرفه شعراء المغرب العربي كأبي القاسم الشابي، وعبد الكريم بن ثابت، وعبد المجيد بن جلون.
تبدأ قصيدة أبي طالب بتساؤل الطفل عن مقامه الجديد بعد أن خرج إلى الدنيا كيف سيكون، ويقارن بين وجوده في بطن أمه يستشف الضياء ويحلم ويغني، وبين خروجه يبكي حتى تقرحت عيناه. ويخاطب المهد الذي كان قبل خليا كي يترك هذا الشقي نائحا يطلب الفناء. ثم يتوجه بالخطاب إلى أمه لتتخلى عن حنانه ولا تضمه، ولتتركه لآناته وأحزانه ونكباته. وعنده أن الحياة سجن، وأن الثدي حيلة لأسر الطفل، وأن القماط قيد يمنعه أن يطير. ويعود إلى مخاطبة أمه فيستفسرها عن سر بكائه لترثي له، ويتحدث عن غربته وعجزه. وعنده كذلك أن الوجود قبيح، وانه هو مثله عاجز أبكم.
وتبدأ القصيدة بقوله :
آه هـل في الوجود صار مقامي هل ستحلو في جوه أحلامـي أم ستبقــى أشباحـــه مرعبـات ماثـلات على الـدوام أمامـي ناظــرات بأعيــن غــادرات
ويلخص الشاعر رأيه في هذا المقطع :
أي شيء في ذا الوجود جميل كلــه فـتـنــة وهم طويــل وضجـيـج وحـسـرة وأنـيـــن وشقــاء ومحنة لا تـزول وخداع بأســخف الـتـرهـات
ثم يختم على هذا النحو :
أنا لا أستطيع تفسير ما بـــي ليت لي قدرة لشرح مصابي أنا في مسرح الوجود غريب رازح فيه تحت نير عـذابـي مثقل بالهموم والحسرات
سوف أبقى ولو غدوت كبيرا عاجزا لا أرى له تفسيـــــرا كل من بالـوجـود أبكــم مثلي ليس فيه من يحسن التعبيـرا رغم تعداد ما به من لغات
ولعل السر في هذه النزعة التأملية التشاؤمية راجع إلى كون الظرف يومئذ ظرف استعمار، وإلى ما كان يقاسيه الشباب ويعانيه أبناء الوطن تحت نير هذا الاستعمار. ربما كان ذلك سببا في هذا المنحى الشعري الذي سار فيه أبو طالب، ويوم يتحدث هو عن شعره وإبداعه فإنه سيشرح لنا لاشك بعض هذه الغوامض.
هذا هو الجانب الأول، ويتعلق بالشعر. أما الجانب الثاني، فلا أتردد في أن أصفه بالريادة فيه، إنه جانب كتابة الرواية التاريخية. الأستاذ عبد الهادي بوطالب نشر عملا روائيا سنة خمسين وتسعمائة وألف، وكان يومئذ في القاهرة في سياق رحلة سياسية لبعض بلدان المشرق، فانتهز وجوده في العاصمة المصرية، وتردد على المكتبات ولا سيما دار الكتب المصرية، وعمق ثقافته في تاريخ العرب والمسلمين، خاصة ما يتعلق بالأندلس والمغرب، وخرج بهذه الفكرة، أن يكتب عن ذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب، ولكن لا أن يكتب عنه بحثا تاريخيا أو مقالة أو مؤلفا عاديا، وإنما أن يكتب رواية. هو سماها قصة تاريخية، وأستسمحه في أن أختلف معه، إنها رواية. لعل أمر التسمية أو قضية المصطلح لم تكن واضحة أو ذات أهمية في تلكم المرحلة.
هذه الرواية تحكي قصة ابن الخطيب في عدد من الفصول يصل إلى عشرين بل تسعة عشر فصلا. وهذه الفصول تتحدث عن ابن الخطيب في الأندلس والمغرب، وتستعرض أحداث الدولة المرينية ودولة بني نصر، والمآسي التي عرفتها الدولتان سواء في المغرب أو الأندلس، وكذلك المآسي التي عرفها بطل الرواية والتي أفضت به إلى أن يحبس وإلى أن يقتل مخنوقا في سجنه.
الشخصية مغرية، والإطار تاريخي ومغر هو كذلك، وإمكانات الإبداع متوافرة لدى الرجل، فليكتب إذن هذه الرواية. وكتبها تبدأ على لسان عجوز في غرناطة تحكي لأطفالها تاريخ الأندلس منذ الفتح. ويظهر الملك أبو الحجاج يوسف في قصر الحمراء وحاجبه رضوان ووزيره ابن الجياب وقائد جنده ابن ثابت وشاعره ابن الخطيب. وينتصر الإسبان وينهزم المغاربة والأندلسيون في جزيرة طريف، ويستشهد والد ابن الخطيب وأخوه فيقول مرثية. ثم يموت ابن الجياب ويتولى ابن الخطيب الكتابة والوزارة ويرحل إلى المغرب ويتصل بأبي عنان. ولدى أبي عنان سيعين سفيرا، وكان قد أعجب به بسبب رسالة كتبها على لسان أبي الحجاج وتمنى لو كان صاحبها في خدمته. ويخرج أبو الحجاج رسميا لصلاة العيد، إلا أنه يغتال في الصلاة، فيتحدث الكاتب عن موكبه للعيد وحمله مقتولا على الأعناق. ويعينه محمد الغني بالله سفيرا له لدى أبي عنان لتحسين العلاقات. ويصور الكاتب ما كان يعتمل في نفس ابن الخطيب نتيجة هذا الوضع وما كان يختلج من ذكريات وتأملات. ويستولي اسماعيل على الحكم، ويفر الغني بالله، ويغتال رضوان الحاجب، ويبقى ابن الخطيب في موقف متذبذب بين الوفاء والانقياد للوضع الجديد، والمسألة مسألة ثقة. ويسجن لسان الدين ويتعرض أبو عنان والمغرب لأحداث، فيتولى ابنه أبو بكر، ويستولي أبو سالم على الأمر، ويتدخل لدى اسماعيل لإطلاق سراح ابن الخطيب. وتقوم ثورة ضد اسماعيل، ويعود محمد الغني بالله وكذلك ابن الخطيب الذي ركبه الغرور والكبرياء والميل إلى الاستبداد. ويفر لسان الدين إلى المغرب بعد أن اتهم بالزندقة والتآمر على الدولة بما حاك له ابن زمرك وأبو الحسن النباهي، ويتولى أحمد بن أبي سالم فيقبل تسليم ابن الخطيب لمحمد الغني بالله. وبعد أن أطلق سراحه وكان ينوي العودة، يدخل السجن بالمدينة البيضاء حيث يخنق.
وقد جاءت الرواية غنية في الجانبين التاريخي والأدبي، بما تضمنته من معلومات تاريخية دقيقة ونصوص شعرية كثيرة. مما جعل هذه العناصر تطغى على الجانب الفني التقني وتوجهه وتتحكم فيه. وقد ترتب على ذلك ميل عند الكاتب إلى الوصف، وكذا سعيه إلى التدخل لإبداء الرأي واستخلاص العيرة في صيغة تعليمية تأملية لا تخلو من تشاؤم.
ويبدو الكاتب متفقا مع جل هذه الملاحظات في إحدى حلقات مذكراته التي ينشر بجريدة "الشرق الأوسط" حيث ذكر أن الكتاب جاء في شكل قصة تستعرض حياة الوزير الكاتب ابن الخطيب، وتعتمد على الوقائع التاريخية أكثر مما تعتمد على الأخيلة الإبداعية، في صورة فصل من تاريخ السياسة العربية المغربية في القرن الثامن الهجري. وقال كذلك إنه كان مشدودا في مطالعاته المتنوعة إلى سلسلة قصص جورجي زيدان التي كانت تصدرها تباعا دار الهلال المصرية، وانه كان بها شغوفا. لكنه كان يأخذ عليها جنوح كاتبها إلى إطلاق عنان الخيال على حساب تمحيص الأحداث وإخضاعها لوقائع تاريخها. ومن ثم صمم هو العزم على إصدار سلسلة قصص تتلافى ما كان يعيبه على حلقات زيدان، وكانت البداية بابن الخطيب.
هذه كلها جوانب يمكن أن نطيل النقاش فيها، ولكن الذي يهمني هو أننا كنا في تلكم الفترة ما زلنا لا نعرف الرواية، بل إن القصة كانت ما تزال في بدايتها. نعم، كانت هناك بعض المحاولات القصصية في سنوات الثلاثين وفي بداية الأربعين، وكانت هناك كذلك بعض القصص المترجمة وبعض الذين يجربون الكتابة في هذا الفن الجديد، ولكن الرواية باعتبارها عملا كبيرا ومتكاملا تتداخل فيه أحداث متعددة ومتشابكة تنمو وتتطور في ديمومة ودلالة تنبثق منها جميعا ليخرج العمل في قالب فني مضبوط، ذلك لم يكن معهودا يومئذ. نحن الآن ألفنا كتابة الرواية، ومعنا في هذه الجلسة كاتبان ممتازان من المتمرسين بهذا الفن في المغرب، الأستاذ عبد الكريم غلاب والأستاذ ربيع مبارك، ولكننا في عام خمسين لم نكن نعرف هذا النوع من التأليف الأدبي الذي دخله الأستاذ عبد الهادي بوطالب واقتحم ميدانه ببراعة وإبداع.
هذه بعض الملامح التي تميز أدب الأستاذ عبد الهادي بوطالب، وتبرزه، ليس أديبا عاديا، ولكن أديبا ينظر إلى آفاق التجديد، ويوظف كل تلكم القدرات التي ذكرت في البداية أنه يتمتع بها، وكان في ذلك موفقا أحسن التوفيق.
وإني لأغتنم هذه المناسبة التكريمية للفت الانتباه إلى ضرورة جمع الإنتاج الأدبي للصديق بوطالب، لأني وجدت بعض الصعوبة في الوقوف على النماذج التي سقت منه، وأغتنمها بصفة خاصة لأقول للأستاذ عبد الهادي ولمنظمي هذه الندوة أن الحاجة ماسة أن تتم العناية بجمع هذا الشعر وبجميع الأعمال الأخرى التي لاشك أنه أبدعها ولم ينشرها، لأنه تحدث في مذكراته عن رواية ثانية أو عن قصة تناول فيها ابن خلدون. ما أحوجنا إلى أن نعرف هذه الأعمال باعتبارها أعمالا مبكرة رائدة، وباعتبارها أعمالا شقت الطريق للآخرين، وباعتبارها قبل هذا وبعد أعمالا جيدة في مستوى إبداع راق ورائع.
وشكرا لكم. والسلام عليكم ورحمة الله. |
ندوة فكرية في موضوع "قراءة في المسار السياسي والفكري للأستاذ عبد الهادي بوطالب" الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 |
عبد الهادي بوطالب بين السياسة والديبلوماسية الأربعاء 24 أبريل 2024 |
في الذكرى 14 لوفاة الأستاذ الكبير عبد الهادي بوطالب الجمعة 15 ديسمبر 2023 |
رواية الأستاذ عبد الهادي بوطالب "وزير غرناطة" في ندوة علمية بفاس (الأربعاء 17 ماي 2023) الأربعاء 24 مايو 2023 |
قراءة في مذكرات الأستاذ عبد الهادي بوطالب (ندوة فكرية)بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته. (السبت 14 دجنبر 2019) الثلاثاء 14 مارس 2023 |