شهادة الأستاذ أحمد الخمليشي
بسم الله الرحمن الرحيم، تعود معرفتي بالمرحوم الأستاذ عبد الهادي بوطالب رحمه الله تعالى إلى أواخر عام 1964، عندما كان وزيرا للعدل. وكنت يومها قاضيا بمحكمة الاستئناف بالرباط. وكان قانون المحاماة إذ ذاك يسمح لمن قضى أربع سنوات في سلك القضاء بالتسجيل في نقابة المحامين وفي جدول المحاماة. والفوج الأول الذي تخرج من كلية الحقوق التحق بالقضاء في أواخر عام 1960، وعندما أتم أربع سنوات، في أواخر 1964 قدم عدد من أفراده استقالته بقصد ممارسة مهنة المحاماة، نظرا لكون الراتب المخصص للقضاة كان منخفضا جدا (حوالي 600 درهم) وقد كنت من بين الذين قدموا استقالتهم. غير أن المرحوم الأستاذ عبد الهادي بوطالب استدعى بعض الذين قدموا استقالتهم وكنت من بينهم. استقبلني في مكتبه وقال لي إننا في حاجة إلى العناصر التي تكونت في المحاكم، خصوصا أننا مقبلون، يقول رحمه الله، على توحيد القضاء ([1]). ولذلك فإنني أطلب من العناصر التي نراها صالحة لممارسة القضاء أن لا تستعجل بتقديم الاستقالة، وأن تتحمل مسئوليتها في التأسيس الجديد لقضاء مغربي موحد. وبعد مناقشات معه تراجعت فعلا عن الاستقالة واستمرت في عملي القضائي إلى نهاية عام 1970.
كان هذا أول لقاء لي معه. بعد ذلك توالت لقاءات عديدة في ندوات ولقاءات ثقافية وفكرية وعلمية ولعل أبرز محطة للقاء المباشر مع المرحوم الأستاذ عبد الهادي بوطالب، كان عام 1992 بمناسبة مراجعة بعض مواد مدونة الأحوال الشخصية.
ففي سنة 1992 قامت حركة تطالب بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية، وهو ما أثار توجها مضادا يطالب بالإبقاء على جميع مقتضياتها كما هي مع اتهام المطالبين بالتغيير بالعلمنة والتنكر لأحكام الشريعة. وعندما احتدم النقاش تدخل المرحوم الحسن الثاني في خطاب 20 غشت 1992 وطلب من الجميع أن يقدموا ملاحظاتهم ومقترحاتهم حول المقتضيات التي يرونها تتطلب التعديل أو التغيير، رفعت الكثير من المذكرات ومن المطالب إلى الديوان الملكي. وبعد تجميع تلك المطالب والتعديلات والمقترحات، تشكلت لجنة من سبعة عشر عضوا أسندت رئاستها إلى المرحوم عبد الهادي بوطالب. وبصفته رئيسا للجنة جمع تلك المقترحات التي رفعت إلى الديوان الملكي وكانت ملاحظات قليلة لا تتعدى تسعة مقترحات تتعلق بأهلية الزواج وتعدد الزوجات والولاية على الأبناء، ومسطرة الطلاق والمتعة والحضانة إلخ.
ويبدو أن الأستاذ بوطالب أدرك أنه في ظل التوتر الاجتماعي القائم لن يتم الوصول إلى نتائج مرضية وفي فترة معقولة إذا طرحت المقترحات في مناقشات عامة بين أعضاء اللجنة البالغ عددهم سبعة عشر عضوا إضافة إلى السيدين: وزير العدل ووزير الأوقاف والشئون الإسلامية والاستاذ أحمد بنسودة من الديوان الملكي.
ولذلك لخص المطالب التسعة ووجه نسخة منها إلى كل عضو مرفقة برسالة تقول:" الرجاء منكم دراسة الموضوع والكتابة في كل محور بما ترونه ملائما للشرع ومقتضى التطور مع الاختصار والتركيز على الأهم عند إبداء الرأي على أن يصلني جوابكم قبل العاشر من دجنبر 1992.
وبعد التوصل بالأجوبة لخص كل جواب في جملة أو جملتين ضمنت في خانات جدول يشمل جميع الأعضاء، وبذلك اختزلت المناقشات العامة في جلسات محدودة تم بعدها تقديم المقترحات التي صدرت بها ثلاثة ظهائر مؤرخة في 10/09/1993.
وهذه محطة أساسية سمحت لي بإجراء مناقشات أساسية مع المرحوم بوطالب الذي اكتشفت من خلالها رؤيته لبناء القانون المنظم للأسرة وتجاوز عدد من الأحكام الفقهية في الموضوع.
طبعا لي معه اتصال من نوع آخر يتمثل في قراءة إنتاجه الفكري الذي يعلمه الجميع. وقد قال لي أكثر من مرة إنه يتأسف كثيرا على عدم التفرغ لكتابة تفسير للقرآن الكريم. كان يحس بألم لكونه لم يول اهتماما كبيرا لهذا الجانب، كانت لديه رغبة ملحة، لذلك كتب في أواخر أيامه قبسات من نور الذكر الحكيم.
في أكثر من مناسبة كنا نناقش بعض أفكاره التي نشرها في كتبه، والراجعة بالأساس إلى الفكر الإسلامي، وكان يقول لي، عندما أقدم بعض الملاحظات عن أفكاره:" إننا متفقون من حيث الجوهر غير أننا من حيث التفاصيل قد تكون الرؤى متباينة ".
من بين ما كانت تتميز به شخصية المرحوم بوطالب أنه كان متحفظا في آرائه، ربما يعود الأمر إلى طبيعة مركزه وتكوينه بالقرويين وهذا ما يبدو واضحا مثلا من كتابه "حقيقة الإسلام". كان لا يريد أن يتصادم فيما يبديه من آراء، فضلا عن ذلك أنه كان ذا ذكاء حاد، يعالج الموضوعات بأسلوب لا يثير المخالفين في الرأي.
الأستاذ عبد الهادي بوطالب الذي تخرج من القرويين وحصل منها على العالمية كأصغر طالب، كان يتقن اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية. وهو أمر نادر بين أمثاله وفي النصف الأول من القرن العشرين، إن ذلك يدل على الذكاء والإرادة وتخصيص وقته للمعرفة وللمزيد من العلم.
واشتغل منذ نعومة أظفاره بالسياسة وهموم الوطن وكان من مؤسسي حزب الشورى والاستقلال، وبعد انتهاء فترة الاستعمار واصل الأستاذ بوطالب العمل السياسي في الإطارين الحزبي والرسمي وفي كل ذلك كان مثال الرجل الكفء القادر على أداء الواجب والوفاء بالأمانة.
وكل ذلك لم يمنعه من إنتاج فكري متميز تشهد به كتاباته المتنوعة من الفكر الاسلامي، والتحليلات السياسية إلى التفسير والكتابات القانونية.
وجانب آخر من علاقاتي بالأستاذ بوطالب انني استدعيته أكثر من مرة إلى دار الحديث الحسنية لإلقاء بعض المحاضرات ولقاء الطلبة للاستفادة من أفكاره وعمق تحليلاته لوقائع الحياة وللآفاق المعرفية المختلفة. أعتقد أن المرحوم بوطالب لو خصص نشاطه كله للفكر لكان شخصا آخر وكان له إنتاج فكري أكثر وأعمق، لكن الإنسان ليس مختارا في العديد من الأمور في حياته.
في أواخر أيامه كان يشعر أنه بالغ في الاستمرار في حياته الإدارية والسياسية على حساب طموحاته الفكرية. إنه في نظري من أبرز رجال الفكر المغربي في القرن العشرين. وآراؤه نموذج من نماذج رجالات المغرب الذين تشكلوا من ثقافته الخالصة واستفادوا من الانفتاح على ثقافات أخرى رائدة للحضارة الانسانية، ومواقفه تساهم بالشيء الكثير في بناء الفكر المغربي المعاصر، فقد كان متمكنا من المعلومات الفقهية، وأصول الشريعة، ومطلعا على كثير من أفكار الحضارات الأخرى، ومدركا لمجريات السياسات العالمية وتأثيرها على التدافع الحضاري، والتعايش البشري. وما أتمناه هو العناية بإنتاجه الفكري ونشر ما لم ينشر، وإعادة نشر ما سبق نشره محافظة على حلقات التواصل بين الأجيال التي يحتاج إليها المغرب أيما احتياج.
[1]ـصدر قانون توحيد القضاء ومغربته بظهير 26 يناير 1965.
|