الثلاثاء 7 يناير 2025
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

شهادة الأستاذ عبد الواحد بنمسعود المحامي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه

 

سيداتي، وسادتي،

 

أود بمناسبة تأبين الراحل العلامة المتبحر، والوطني  الغيور، والسياسي المحنك، والأستاذ المحاضر المقتدر، السيد عبد الهادي بوطالب رحمه الله برحمته الواسعة، أود  أن أقدم شهادة مركزة وبقدر ما يسمح به الوقت المخصص للمداخلات، لأستعرض بعض الصور  والذكريات مع المغفور له، وهي صور وذكريات ما زالت عالقة بذهني وقد انصرم عليها ما يزيد على 45 سنة.

 

لقد تشرفت بالعمل مع المرحوم سنة 1962 عندما دخلت لمعترك الحياة، وفي فترة سياسية دقيقة وخلال قيام المرحوم بمهمة في غاية الدقة والحساسية والخطورة.

 

ذلك أنه عقب الانفصال الذي حدث يوم 28 سبتمبر 1961 بين مصر وسوريا، بعدما كانت الدولتان تكونان وحدة سياسية، ودخل القطران الشقيقان تحت لواء ما كان يعرف بالجمهورية العربية المتحدة، ترك هذا الانفصام مشاكل كان يمكن أن تفضي نزاعاتها إلى ما لا يحمد عقباه، والمنطقة في أشد الحاجة للاستقرار ووحدة الصف، لمواجهة العدو المشترك.

 

وبفضل ما كان يتمتع به جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني نور الله ضريحه على الصعيد الوطني والدولي، من مكانة عالية مرموقة، وحكمة وبعد نظر وسداد في الرأي، وقدرة على تطويق الأزمات، وإطفاء بؤر التوترات، فقد توجهت إليه كل من مصر وسوريا قصد القيام بدور الوساطة بين البلدين الشقيقين، وحل ما خلفه انحلال الوحدة من مشاكل بينهما بالتي هي أحسن وأقوم سبيلا.

 

ولما كان يتمتع به المرحوم أستاذنا عبد الهادي بوطالب من علم واسع، وتجارب عميقة، وحنكة سياسية، وقدرة على التعبير والإقناع، ومعرفة بالمشرق العربي، وشؤون جامعة الدول العربية، فقد اختاره جلالة المغفور له الحسن الثاني ليكون رسوله في هذه المهمة العويصة، مهمة لم يعلن عنها ولكن لفت في مهمة سفير لجلالة ملك المغرب لدى الجمهورية العربية السورية، التي أصبح على رأسها فخامة الرئيس ناظم القدسي.

 

لم يسبق لي أن تشرفت بمعرفة الأستاذ عبد الهادي بوطالب، أو التقيت به، ولكن معرفتي به كانت من خلال ما قرأته عنه في بعض ما كتب ونشر في موضوع تخرجه بدرجة امتياز من جامعة القرويين، وكونه تسلم شهادته العليا من يد المرحوم جلالة الملك محمد الخامس، وما اطلعت عليه من خلال ما كتب عن تأسيس الحركات الوطنية، والتحاقه كأستاذ لولي العهد بالمدرسة المولوية، وكيف شارك مشاركة فعالة في الوفود المغربية وهي تجري مفاوضات شاقة وعسيرة مع فرنسا من أجل عودة الشرعية واستقلال المغرب.

 

لقد لعبت المصادفات الغريبة دورها في موضوع التحاقي بوزارة الخارجية وكان على رأسها الوطني الغيور والمناضل المرحوم الحاج أحمد بلافريج، حيث استقبلني بمكتبه، وعرض علي العمل كسكرتير أول في سفارة المملكة المغربية بدمشق، وأخبرني بأن رئيس البعثة وسفيرها هو الأستاذ عبد الهادي بوطالب، فلم أتردد لحظة واحدة، وقبلت العرض على الفور، وأظهرت الاستعداد للسفر في أقرب وقت خوف أن تضيع مني هذه الفرصة الذهبية.

 

وسافرت جوا مع زميل، وفي مطار دمشق الدولي استقبلنا المرحوم رشيد الخطابي وكان مكلفا في دمشق، برعاية مصالح المغرب خلال قيام الوحدة بين مصر وسوريا، ثم وصل السيد السفير بعد مدة قصيرة من تسلم أوراق اعتماده، وكان اللقاء الأول على أرضية ذلك المطار، واتخذ السيد السفير غرفة لإقامته في فندق، وغرفتين لمكاتب السفارة ريثما يتم إيجاد مقر مناسب ومشرف للبعثة الدبلوماسية المغربية المكونة من أربعة أعضاء فقط.

 

وفي اليوم الموالي، قدم السيد السفير نسخة من أوراق اعتماده للسيد وزير الخارجية السوري، وفي اليوم الثالث قدم صحبة أعضاء سفارته أوراق اعتماده لفخامة رئيس الجمهورية السورية ناظم القدسي، وكان شخصية مرموقة ومن خبراء المال والاقتصاد، أنيقا بشوشا مجاملا في عباراته وترحيبه.

 

وبعد نهاية مراسم تقديم أوراق الاعتماد، انفرد فخامة الرئيس بالسيد السفير مدة لا تقل عن ساعة ونصف، وحضر تلك المقابلة بعض الوزراء، فكانت جلسة العمل الأولى بمقر رئاسة الجمهورية، مما يدل على أهمية الموضوع الذي راج في تلك المقابلة.

 

شرع السيد السفير على الفور في مزاولة مهامه، وأخذ ينتقل في رحلات مكوكية بين القاهرة ودمشق، وفتح مقره على مصراعيه  للزوار والمراجعين، وأظهر الكرم المغربي في أبهى حلله وصوره، وألقى المحاضرات في مختلف المجامع العلمية والفكرية، وارتفع نجم سفارة المغرب عاليا، ولعبت السيدة عقيلة السفير دورا مشرفا،  وأبانت عن أصالة  ودور المرأة المغربية في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.

 

وهنا أذكر محطتين أساسيتين كان لهما الأثر الكبير وزادا في إشعاع دور السفارة المغربية وسفيرها  :

 

الأولى : أن السيد السفير وصل إلى دمشق في نهاية شهر فبراير، ونظم يوم 3 مارس بمناسبة عيد العرش المجيد لسنة 1962 حفلة استقبال بالنادي الدبلوماسي بدمشق، وتشرف الحفل بحضور الأميرة الجليلة لمياء الصلح وهي مرتدية الزي المغربي الذي انبهر له الحضور، كما حضر هذا الحفل بصفة مفاجئة وبدون سابق إعلان فخامة رئيس الجمهورية السورية السيد ناظم القدسي وبمعيته جميع أعضاء الوزارة السورية، وذلك تقديرا لملك المغرب ولعيده السعيد، وتكريما للسفارة المغربية وللمواطنين المغاربة المقيمين في سوريا.

 

المحطة الثانية : وهذه المحطة كانت عبارة عن حدث سياسي هز المجتمع السوري، ذلك أن السفير كان على علم مسبق بتدبير انقلاب ضد النظام القائم، وأخبر به قبل وقوعه، وفعلا قام بهذا الانقلاب الجنرال عبد الكريم زهر الدين يوم 28 مارس 1962 وألقى القبض على السيد رئيس الجمهورية والهيئة الوزارية، واستدعى السفراء العرب المعتمدين في دمشق، وطلب منهم إخبار دولهم بهذا الانقلاب والاعتراف بالنظام الجديد، فاعتبر السفراء أن موضوع الانقلاب شأن سوري داخلي، والدولة التي لم تسحب سفيرها يعتبر ذلك منها بمثابة اعتراف بالنظام الجديد، ولكن السيد سفير المغرب عبد الهادي بوطالب بجرأته ووطنيته عبر عن رأيه بوضوح وصرح للجنرال مدير الانقلاب أن ذلك الانقلاب غير شرعي، وعلى الجيش أن يعود لثكناته وأن يعود المدنيون لممارسة مهامهم. وبعد مرور شهر على ذلك الانقلاب أفرج عن السيد رئيس الجمهورية ومن معه، واعتبر الجميع أن السفير المغربي لعب دورا في إحباط ذلك الانقلاب، ولقي موقف السفير المغربي استحسانا من طرف الجهات العليا في بلادنا.

 

ولما اقترب موعد رجوع السيد السفير إلى المغرب، دخلت إلى مكتبه وطلبت منه أن ألتحق بديوانه بوزارة الإعلام، فقال ناصحا نصيحة الأب لابنه : لقد اخترت العمل الدبلوماسي، وآنست منك بوادر مشجعة، فعليك أن تتابع مسيرتك، سأسافر وستبقى قائما بالأعمال، ومن يدري ربما ستصبح يوما سفيرا لصاحب الجلالة في هذه الديار وأنت تعرفها جيدا.

 

وفراسة المؤمن لا تخطىء، فبعد 25 عاما على هذا الحوار، تفضل صاحب الجلالة الحسن الثاني نور الله قبره، وشرفني وعينني سفيرا لجلالته في سوريا، وكان فخامة السيد حافظ الأسد رئيسا للجمهورية، ومنذ أن تسلمت أوراق الاعتماد جعلت نصب عيني أن أنسج على منوال معلمي وأستاذي عبد الهادي بوطالب، وأن أقتفي أثره جزاه الله الجزاء الأوفى.

 

لقد غادر السيد السفير عبد الهادي بوطالب دمشق بعدما نجح في المهمة التي أسندت إليه، وكان في وداعه جميع أعضاء الهيئة الوزارية، وممثل خاص لرئيس الجمهورية السيد ناظم القدسي الذي استقبل السيد السفير قبل سفره وقال له : "لولا أنني ربما سأقوم بشيء لا يفهم، لذهبت إلى المطار لتوديعك، ولكنني أعطيت التعليمات بأن يكون جميع الوزراء حاضرين بالمطار في وداعك".

 

رحم الله الفقيد رحمة واسعة، وأغدق عليه شآبيب المغفرة والرضوان، ومتع الله عقيلته وأنجاله بموفور الصحة والعافية، وأشكركم على حسن الاستماع.

 

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

شهادات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي