كلمة الأستاذ وجيه قاسم السفير السابق لدولة فلسطين في الرباط |
![]() |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
معالي الأخ الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام لمنظمة الإيسيسكو، سعادة الأخ عبد المجيد بوطالب، أصحاب المعالي والسعادة، الأخوات والإخوة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
«من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا» صدق الله العظيم.
نجتمع اليوم في هذا الجمع المهيب لإحياء هذه السنة الحميدة، لتأبين فقيدنا الغالي الأستاذ عبد الهادي بوطالب، تغمده الله بواسع رحمته. ولابد قبل الشروع في الحديث من توجيه الشكر والعرفان لمعالي الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري لجمعنا في هذه المناسبة الجليلة، وفي هذه المؤسسة التي كان فقيدنا الراحل مؤسسا لها، فيضيف بذلك لإنجازاته الكثيرة والكبيرة خصلة حميدة ألا وهي العرفان والتقدير لمؤسس هذه المؤسسة التي تسلم منه قيادتها، ليكمل المسيرة، فيعلي من شأنها، ويصل بها إلى العالمية في ميادين التربية والثقافة والعلوم ويخرج بحضارتنا إلى آفاق رحبة تتساوى فيها مع كبريات الحضارات والثقافات العالمية.
كيف لإ! وهو الذي أتيحت له الفرصة أكثر من غيره لمعايشة فقيدنا الكبير، فعرف فضله وجلال قدره وعلو كعبه في الوطنية والسياسة والثقافة والعلوم، وفي علوم اللغة وأحكام الدين، وكنوز الحضارة ومجريات التاريخ، لا في المغرب وحسب حيث أسندت له المناصب وتقلب في الكثير من المواقع وأجاد في معظم الميادين، بل خارج بلده وفي أقطار أمته حيث عرف بأبحاثه وعلاقاته الواسعة ومساهماته العلمية والسياسية في المشرق والمغرب.
ابتدأ الأستاذ عبد الهادي بوطالب رحمه الله مساره وتفتحت مداركه في جامعة القرويين، حاضنة الوطنية وعلوم الدين، فتعرف على عظمة هذه الأمة واستوعب حضارتها العملاقة، وتراثها الثقاقي، وريادتها العلمية والفكرية، وقارنها مع الوضع البائس للأمة تحت نير الاستعمار والامتهان الأجنبي، فاتقدت عزيمته وانغمس في مناخ المطالبة بالحرية والاستقلال، فانبرى يافعا للمساهمة في الحركة الوطنية، في كتلة العمل الوطني أولا ثم مناضلا في حزب الشورى والاستقلال، وخاض غمار العمل الوطني حتى تحقق الاستقلال. لقد تعرف في مسيرته الوطنية على قضايا الأمة، ونسج العلاقات مع أعلام الوطنية والكفاح، مزاوجا في وطنيته بين هموم شعبه في الداخل وهموم الأمة في الخارج. وقد حظيت القضية الفلسطينية بنصيب هام من جهوده وتفكيره مع قضيته الوطنية سواء بسواء، يتظاهر من أجلها شابا في شوارع فاس، ويحمل همها معه في جميع المناصب التي تبوأها مناضلا وعالما وأستاذا وسفيرا ووزيرا ومستشارا، وتتجلى في فكره وجهده محاضرا وكاتبا وفاعلا سياسيا إلى أن اختاره الله إلى جواره.
وها نحن اليوم بإحياء ذكرى الأستاذ عبد الهادي بوطالب، إنما نتذكر كريم مناقبه وصدق إيمانه لنتخذ منه نبراسا نهتدي به ونتلمس خطاه لنجعل منه، ومن أقرانه من جيل الوطنية والكفاح، مثالا لشباب اليوم وجيل الغد، لنتعلم منهم المبادرة وعدم الاتكال وأن نعتمد على ما حبانا الله من إمكانيات، وما وفروه لنا من تجارب ومآثر فنحدد الهدف ونبرمج المسار ونقطع المراحل نحو أهدافنا المنشودة. فالماضي تجربة وعبرة، والحاضر إصرار وعمل، والمستقبل رؤيا تنتظر الإنجاز من أصحاب الهمم العالية، متسلحين بعقيدة راسخة وعلم متجدد وخطى واثقة مستنيرة وطموح لا يعرف الفشل.
رحم الله فقيدنا الغالي وألهمنا وأجيالنا الطامحة السير على هداه، كان لا يشبع من العلم ولا يكف عن العطاء، يسابق الزمن ليرى الناس كما يجب أن يكونوا ويرى أمته وقد تبوأت مقعدها في صدارة الأمم لتكون خير أمة أخرجت للناس.
تعرفت عليه رحمه الله عام 1969 في مكتبه في شارع مكناس في الرباط مع المرحوم فخري شيخ الأرض، سفير المملكة العربية السعودية آنذاك، فحدثنا عن علاقاته مع جيل الرواد من زعماء فلسطين، والتزامه بالقضية الفلسطينية منذ ثلاثينات القرن الماضي، وعن زيارة جلالة المغفور له محمد الخامس للمسجد الأقصى، ثم انتقل للاستفسار عن فتح، عن مبادئها وأهدافها، إمكاناتها ومصاعبها، قادتها وأنصارها، مبديا استعداده لدعمها ومساندتها بكل ما يلزم، كظاهرة تدعو للإعجاب، ويعقد عليها الأمل، كما أخبرنا باهتمام جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني بالتعرف أكثر على قيادتها واستعداد المغرب قيادة وشعبا لمؤازرتها. ومنذ ذلك التاريخ إلى أشهر خلت لم ينقطع رحمه اللهعن الاتصال معي ومع إخواني، سائلا عن حدث، أو متيقنا من تاريخ معين، أو ناصحا لإخوانه في قيادتنا باتخاذ خطوة يستصوبها، أو محذرا من هفوة يخشى عليهم الانزلاق فيها.
وإن كنت لا أستطيع أن أجمل ما قام به رحمه الله من مواقف مشرفة، وما قدمه لقضيته ولشعبه ولأمته من جلائل الأعمال، إلا أني ما زلت أذكر الحبور الذي كان يعلو وجهه، ونحن نشترك في صياغة النظام الأساسي واللوائح التنظيمية لهذه المنظمة الناجحة "المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة"، والآمال التي كان يعقدها عليها في رفع شأن الأمة، وتمتين أواصرها، والتعريف بحضارتها، وكان له ما أراد، فأثلجت إنجازاتها صدره وأقرت عينه قبل أن تغمض أجفانه، حيث نمت وترعرعت على أيدي مجموعة من العاملين المخلصين بقيادة أخينا الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري الذي قادها بحكمة واقتدار وجعل منها مفخرة من مفاخر أمتنا المعاصرة ونافذة واسعة للاطلاع وكسب المعارف اللازمة لشعوبنا، لوضع أقدامنا على سلم الحضارة المعاصرة.
كان الأستاذ عبد الهادي بوطالب شغوفا بالاطلاع، يقرأ بنهم، ويكتب بشغف، مؤمنا أشد الإيمان بأن الحياة علم وعمل، يشجع البحوث، ويفرح بكل إصدار جديد، يغتبط بكل اجتهاد معاصر يبعدنا عن الجمود في التفكير.
كان رحمه الله يعتبر أن الثقافة الفلسطينية، والكتاب والمفكرين الفلسطينيين ركزوا كل جهودهم على الفترة الحديثة من صراعهم مع العدو الصهيوني، لحاجتهم لصيانة هويتهم الوطنية، واستعادة كيانهم الممزق ووطنهم السليب، والدفاع عن مقدساتهم في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، دون الالتفات بما يكفي لتاريخ فلسطين القديم الذي ترك نهبا للصهاينة والمؤرخين التوراتيين فقاموا بتزييفه لصالح دولة إسرائيل، ولذلك فقد أعطى أهمية كبيرة لكتاب "الاستشراق" للراحل الدكتور إدوارد سعيد، واعتبره من أهم ما أنتج لتفنيد المزاعم الصهيونية والغربية، التي تطمس التاريخ الفلسطيني لصالح الدولة اليهودية القديمة، التي لم تكن إلا خيطا رفيعا في نسيج التاريخ الكنعاني الفلسطيني الغني، وأدرك أن الربط المباشر بين الدولة اليهودية القديمة وإسرائيل الحديثة ما هو إلا محاولة لتبرير الجريمة التاريخية باغتصاب فلسطين وتجريد الفلسطينيين من تاريخهم بعد تجريدهم من أرضهم.
إن الجرائم التي تخوضها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، والصلف الذي تتعامل به مع الرأي العام العالمي، والاستهتار بالقيم الإنسانية، واتساع رقعة الوعي بين الشعوب على خطورة هذا المسار العنصري على الحضارة الإنسانية والسلام العالمي، قد دفع كثيرا من الكتاب الغربيين، وبعض الإسرائيليين من ذوي النزاهة العلمية إلى إماطة اللثام في العقود الأخيرة عن هذه الجريمة التاريخية المسماة إسرائيل وتأليف الكتب في كشف زيفها، وفساد مبررات وجودها، من أمثال "د. كيث وايتلام" في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني" الذي قال عنه إدوارد سعيد قبل وفاته إنه أعظم كتاب قرأه في العقد الأخير.
وحتى في إسرائيل نفسها التي تقوم سلطاتها بجهود مستميتة في الحفريات تحت مدينة القدس الشريف، لطمس التاريخ الفلسطيني، وتثبيت مزاعمهم التاريخية، فقد وجد البعض من المؤرخين وعلماء الآثار الذين يحترمون علمهم، ويدحضون المسلمات التي ارتكزت عليها الأسطورة الصهيونية، من أمثال "شلومو ساند" الذي ينكر وجود أمة يهودية ويقول إن يهود اليوم في إسرائيل وفي العالم لا علاقة لهم بفلسطين، إنما هم شراذم من شعوب مختلفة ومتباعدة، اعتنقوا الدين اليهودي بعد زوال الدولة اليهودية القديمة بعدة قرون في فترات متباعدة من الزمن، وألف كتابا متداولا بعنوان "كيف تم اختلاق الشعب اليهودي".
وكذلك الحال بالنسبة لمواطنه المؤرخ المعاصر "إيلان بابي" الذي أماط اللثام عن التخطيط الصهيوني المبرمج لارتكاب المجازر ضد الشعب الفلسطيني من دير ياسين إلى غزة، كوسيلة اتبعت لتفريغ فلسطين من الفلسطينيين، وألف في ذلك كتابا مدعما بالحقائق العلمية بعنوان "التطهير العرقي في فلسطين" يثبت مسؤولية إسرائيل عن نكبة عام 1948 والمذابح المدبرة ضد الشعب الفلسطيني.
معالي الأخ الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام لهذا الصرح العظيم،
لاشك أن زيارتكم لفلسطين، وما تركته في نفسكم الأبية رؤية شعبكم الفلسطيني المحتل، ومؤسساته الثقافية المدمرة، واستكمالا لجهودكم في دعمها، وحرصكم على التاريخ الفلسطيني وصيانته، بإصداركم لسلسلة توثيق القرى المدمرة في فلسطين، وتنظيمكم للندوات والمؤتمرات عن تاريخ الشعب الفلسطيني وقضيته ومقدساته، وتقديركم لعلماء الأمة ونوابغها، وما يربطكم بكثير منهم من روابط المحبة والتقدير، ليجعلكم حريصين على جمع شتات كل هذه البحوث وتعميمها، والاستناد إليها وتطويرها، وتحويلها إلى مرتكزات علمية للجهود السياسية الفلسطينية والعربية والإسلامية، وجعلها أرضية تاريخية وحضارية وثقافية للدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشريف، وبالطريقة التي ترونها مناسبة، يوم يفرح المؤمنون بنصر الله، وما النصر إلا من عند الله العلي القدير. رحم الله فقيدنا الكبير وألهم أهله وإخوانه ومحبيه الصبر والسلوان، وعوض المغرب عنه خيرا في شبابه الناهض، وبارك في عاهله الكريم جلالة الملك محمد السادس حفظه الله وفي شعبه الأبي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
![]() |
بين الشريعة والفقه والقانون (الحلقة 3) الجمعة 21 مارس 2025 |
![]() |
بين الشريعة والفقه والقانون (الحلقة 2) الخميس 20 مارس 2025 |
![]() |
بين الشريعة والفقه والقانون (الحلقة 1) الأربعاء 19 مارس 2025 |
وحدة العالم الإسلامي بين النظرية والتطبيق (الحلقة 3) الجمعة 14 مارس 2025 |
وحدة العالم الإسلامي بين النظرية والتطبيق (الحلقة 2) الخميس 13 مارس 2025 |