السبت 19 أبريل 2025
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

شهادة الأستاذ حاتم البطيوي صحافي في جريدة "الشرق الأوسط"

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أصحاب المعالي والسعادة،

 

اسمحوا لي في البداية أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى سعادة الدكتور عبد العزيز التويجري، على مبادرته الكريمة لإقامة هذا الحفل التأبيني لأحد رجالات المغرب الأفذاذ، الأستاذ عبد الهادي بوطالب رحمه الله. هذا السياسي المتميز، ورجل الدولة  المحنك الذي خبر دهاليز السياسة ومنعرجات السلطة ومنقلباتها على امتداد نصف قرن، والأديب والمفكر الألمعي الذي لا يشق له غبار، وأستاذي وأستاذ الكثير من  المغاربة الذين نهلوا من علمه الغزير، ومن معرفته الواسعة أثناء تدريسه في كليتي الحقوق بالرباط والدارالبيضاء.

 

واسمحوا لي أيضا أن أتحدث هنا عن جانب مهني صرف ربطني بالراحل الكبير، تجسد في إنجاز مذكراته التي نشرت في جريدة "الشرق الأوسط"، في رمضان عام 2000، تحت عنوان "نصف قرن تحت مجهر السياسة".

 

البداية كانت حينما اقترح علي الأستاذ والأخ العزيز، عثمان العمير، رئيس تحرير "الشرق الأوسط" الأسبق، أن أطرق باب ذكريات عبد الهادي بوطالب، لمعرفته العميقة بأهمية الرجل، وثقل عياره، وندرة معدنه، في المشهد السياسي  المغربي. وقتذاك كان العمير قد غادر مكتبه في الطابق الثاني بدار الصحافة العربي في "هادي هولبورن" بلندن.

 

وأذكر هنا كيف هاتفت الأستاذ بوطالب، ذات صباح لندني غائم وممطر، مقترحا عليه إنجاز مذكراته السياسية، وفوجئت بموافقته السريعة، وحماسته الكبيرة لذلك. وقتها لم أصدق نفسي، واعتبرت تشريف الأستاذ بوطالب لي بموافقته على إبحاري في ذاكرته الغنية، من مصادفات الحياة الجميلة، التي يتمناها أي صحافي يشق طريقه بخطى هادئة في ربوع الكلمة والمعلومة.

 

كان علي قبل الانتقال إلى الدارالبيضاء، أن أقرأ وأبحث في تاريخ المغرب الحديث، والمحطات السياسية الأساسية، التي كان فيها السي بوطالب لاعبا محوريا، أو مجرد شاهد عليها سواء عن قرب أو بعد.

 

استغرق الإعداد لذلك مدة ستة أشهر، قبل أن أسأله السؤال الأول في مكتبه بداره الكائنة بمنطقة عين الذئاب، فتكون أجوبته ولادة لأسئلة لا تنضب، سؤال يلد آخر، وهكذا دواليك، في أجواء تغمرها الصراحة والمكاشفة، وتزدان بنزاهة فكرية وأدبية نادرة، روى خلالها ما عايشه من أحداث جسام.

 

وللأمانة، لم ينزعج الراحل من أي سؤال مشاغب، ولم يرفض الإجابة عنه. كان رحمه الله بحسه الموسوعي المتعدد، يعرف ماذا يريد الصحافي؟. لم تكن لغته توأما للخشب، ومضت المعلومات تتناسل وتتدفق من فمه مثل جلمود صخر حطها السيل من عل. وذاك لعمري، ليس غريبا عليه، فهو غاص في مسبح صاحبة الجلالة "الصحافة" قبل أن يمخر مركبه عباب بحر السلطة والقصر، وذلك من خلال اشتغاله في صحافة حزب الشورى والاستقلال، وتميزه بعموده "هذه سبيلي". إذ لم يكن خافيا عليه رحمه الله دور الصحافة في المساهمة في كتابة التاريخ المغربي المعاصر، وهو ما جعل الحوار معه ممتدا ومسترسلا وممتعا، لا يكل منه المرء، ولا تتعب منه الأشرطة التي تسجل ما تجود به ذاكرته الخصبة مثل سهل سايس، والموشومة مثل الكتابات المنقوشة على أبواب فاس القديمة. خلال التسجيل ذكرت أسماء كثيرة، وشهوده كانوا دائما أحياء، ديدنه في ذلك المساهمة في الكشف عن صفحات مجهولة من التاريخ الحديث لوطننا العزيز.

 

أصابتني، بفعل ذلك، تخمة صحافية، وانتابني إحساس بأني مجايل للأستاذ بوطالب، وأنني عشت عن قرب غنى حياته بصعودها وهبوطها، بنجاحاتها وهناتها ومواجعها. في تلك الأثناء بدا لي أن الحسن الثاني، هذا الملك العظيم، الذي كان وما زال في خواطر المغاربة وقلوبهم، حاضر معنا. فبوطالب رافقه وعايشه في أشد مراحل المغرب حساسية وحرجا، مثلما بدا لي التاريخ حاضرا أيضا.

 

كل شيء في بيت بوطالب، كان ولا يزال، يفوح بعبق باني المغرب الحديث، أوسمته، صوره الكثيرة، هنا وهناك بيد أن الصورة التي لفتت نظري أكثر هي صورة للملك الحسن الثاني كتب عليها إهداء بخط يده يقول فيه : "إلى أستاذنا ووزيرنا السيد عبد الهادي بوطالب كرمز محبتنا وتقديرنا لشخصه داعين له بدوام التوفيق والسعادة (نوفمبر 1965)". وإلى جانبها بدت شهادة تخرج بوطالب من جامعة القرويين في فاس وقد وقع عليها السلطان محمد بن يوسف، الذي كتب أيضا كلمة بخط يده قال فيها : "سلمنا هذه الشهادة بيدنا الشريفة لصاحبها مجازاة على اجتهاده واعتناء بالعلم الشريف. توقيع : محمد بن يوسف أمير المؤمنين أعزه الله وأيده".

 

-                انتهينا من إعداد المذكرات، ونشرت في الجريدة الخضراء، وصدرت بعد ذلك في كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وبدا بوطالب وكأن الروح عادت إليه من جديد، خاصة بعد مغادرته الديوان الملكي.

 

توطدت العلاقة بيني وبينه أكثر. وقال لي مرارا : "لابد من إنجاز كتاب آخر حول رؤيته للكثيرمن القضايا المغربية والعربية والدولية". وكنت حريصا على زيارته بين الفينة والأخرى للاستفادة من قراءته للأحداث التي يعرفها المغرب والعالم.

 

في آخر مرة زرته فيها، وكانت برفقة الصديق العزيز السي محمد برادة، استمتعنا بالحديث إليه، وسماع ما يقوله، وبدا ذهنه كالعادة متوهجا لولا أن وطأة الزمن بدأت تظهر على جسده الواهن، الضامر، وبقيت حريصا على الاتصال به هاتفيا، وما زلت أذكر آخر مكالمة معه، وكان الألم قد تمكن منه، وقال لي إن عزاءه ومخفف آلامه هو العناية الموصولة التي خصه بها جلالة الملك محمد السادس، وسؤال جلالته الدائم عنه.

 

قبل ثلاث سنوات، تشرفت بالمساهمة في الإعداد لندوة تكريمية نظمتها مؤسسة منتدى أصيلة، ومن بين من قاله صاحب "وزير غرناطة"، ردا على كلمات مكرميه، وهو ما جعل الدمع يتوقف في مآقي جميع الحاضرين : "لم يسبق لي أن وجهت نفسي للمرآة لمعرفة نفسي.. لقد منحتموني دفعة دافقة تشجعني على الاستمرار، خصوصا وأنه لم يعد لي منصب أجامل من أجله".

 

وزاد قائلا : "أنا أعفيكم من تكريمي بعد مماتي، فأحسن تكريم لأي شخص يجب أن يكون في حياته وليس في مماته".

 

رحم الله سيدي عبد الهادي بوطالب، لقد رحل تاركا في قلبي غصة عدم تمكني من زيارته منذ أن غادرت مربط خيلي في الرباط، وكنت أنوي القيام بذلك نهاية الشهر الماضي، فقد كان دائم السؤال عني، كلما التقى صديقا مشتركا، طالبا منه تبليغي أن أزوره، لكن المنية جاءت على عجل، وحالت دون لقاء آخر وأخير معه.

 

لقد رحل الرجل إلى دار البقاء، وسيظل رحمه الله خالدا بيننا، لأن التاريخ لا ينسى الرجال من أمثاله. فعزاؤنا واحد في فقده، ورزق الله أهله وذويه الصبر والسلوان.

 

شكرا لكم على حسن إصغائكم.

شهادات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي