الاثنين 6 مايو 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

كتاب حقوق الأسرة وتحرير المرأة

من المعلوم أن واحدة من المحطات القوية في المسار الحياتي والفكري ل[ستاذ عبد الهادي بوطالب هي محطة الدفاع عن الوضع الاعتباري للمرأة المغربية. وهذا الدفاع لم يكن بالنسبة له مسألة ذاتية ولا من باب الدعاية المجانية والطارئة، بقدر ما كانت مسألة موقف واقتناع بهذا الموقف عاشه طوال حياته، وهو موقف نابع من مبدأ فتح باب الاجتهاد في القضايا التي استجدت في الحياة المعاصرة. وقد كان بوطالب من بين الأوائل الذين طالبوا بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية لما كانت تنطوي عليه من نظرة دونية للمرأة. وقد لعب شخصيا دورا كبيرا في ما عرفته من تعديلات ومراجعات.

وقد جمع الأستاذ بوطالب بين ثلاثة مكوّنات أو ثلاثة مرجعيات متكاملة في هذا الموضوع، وذلك بالنظر لحساسية قضية المرأة في مجتمع عربي إسلامي مثل المغرب. هذه المرجعيات هي المرجعية الشرعية الإسلامية، والمرجعية القانونية، المرتبطة بالتزامات المغرب الدولية، وأخيرا المرجعية الحداثية الملائمة للحياة المعاصرة. وبالتالي فهذه المرجعيات هي التي تحكّمت في مراجهة مدونة الأحوال الشخصية.

لقد كان الأستاذ بوطالب يعتبر أن مدونة الأسرة السايقة كانت تنسجم مع النظرة الدونية للمرأة التي تعتبرها تابعة للزوج ولا شخصية مستقلة لها. وبناء على ذلك جردتها من ممارسة أبسط الحقوق لأنها تعتبرها لا تستحق أن ترقى إلى درجة ممارسة الحقوق، وإنما تخضع لإكراهات الواجبات.

ومن ثم قهو موقف غير سليم، بل ويجافي توجهات التشريع الإسلامي الذي كرم المرأة وسوّاها بالرجل فيما جاءت به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من عدم التمييز بين الذكر والأنثى، وما جاء به الإسلام من إقامة المجتمع على مبدأ المساواة بينهما.

وقد انبرى عبد الهادي بوطالب، في العديد من الكتابات واللقاءات، والندوات إلى انتقاد بعض الفقهاء المتومتين الذين أساؤوا فهم الخطاب الديني على حقيقته، وبالتالي حولوا بيت الزوجية إلى بيت طاعة الزوجة لزوجها.

لقد انتبه بوطالب إلى شيئين رئيسيين: أوّلا إلى التفسيرات غير الصائبة إما لآيات قرآنية بعينها أو لأحاديث نبوية شريفة. ونجد مواقفه في هذا الشأن في الكثير من كتاباته. وما موقفه الشجاع تجاه مدونة الأسرة، ودفاعه عن حقوق المرأة، إلا دليل ساطع على ذلك. يقول: "كما ناصرت في السنوات الأربع الماضية مشكلة إصلاح أوضاع المرأة وساندت إدخال تغيير جذري على مدونة الأحوال الشخصية التي تعكس تراثا فقهيا تجمد منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) عندما أغلق باب الاجتهاد وساد الجمود المجتمعات الإسلامية، ومنها المجتمع المغربي  (...) وعندما كان الجدال صاخبا في مجال حقوق المرأة بين أنصار التطور الحداثيين، ودعاة الجمود التقليديين أعلنت عن موقفي من هذا التراع بالإعلان عن إمكانية التوفيق بين هذين الإتجاهين، من منطلق أن أغلبية ما تطالب به المرأة لا يتعارض في نظري مع مقاصد الشرع المتمثلة في قيم العدل والإنصاف ومساواة الجنسين (أو الزوجين) الذكر والأنثى، وقاعدة رفع الضرر والضِّرار، وإعطاء كل ذي حق حقه. ودعوت إلى العودة إلى الاجتهاد في فهم النصوص الدينية بتأويلها على ما يتلاءم مع المقاصد الشرعية، وبما يكفل أن يُدخل على المدونة إصلاحات في العمق تجعل أحكامها أكثر عدلا وإنصافا وإنسانية" (هذه قصتي، ص 115 وص 116).

ثانيهما هو الانتباه إلى تحرير المرأة من شبه العبودية التي فرضها عليها الرجل في مجتمع ذكوري عتيق باسم الدين أو باسم تفسيرات ليس لها من هذه الأخيرة إلا الاسم. وهي تفسيرات لا تخدم بحال من الأحوال مصالح المرأة، بل تخدم فقط الميولات الأنانية للرجل وطغيان مبدأ الامتلاك على مبدأ الكينونة عنده واعتبار المرأة من عداد ممتلكاته ليس إلا. فمفهوم "بيت الطاعة" التي كان  الفقهاء يفهمونه كبيت الزوجية حيث تسلب المرأة كل إرادة ووجوب طاعة زوجها عمياء، يجب الاجتهاد فيها. وفي هذا الصدد يقول: "ورتبوا على هذا المفهوم الخاطئ إرساء علاقة الزوجين على قاعدة علاقة الأمة بسيدها، أو خادمة البيت بمؤجرها، ناسين أن الإسلام جاء بتكريم الإنسان ذكرا وأنثى، وأنه جعل النساء شقائق الرجال في الأحكام. وقد ترتبت على هذا المفهوم الخاطئ اجتهادات فقهية كرست النظرة الدونية للمرأة بالنسبة للرجل، بل وُضعت في ضوء هذا المفهوم أحاديث نُسبت إلى الرسول، وقرئت قراءات خاطئة لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

والقراءة التي أعلن عنها بوطالب لمفهوم بيت الطاعة تنطلق من أن بيت الزوجية هو البيت الذي يطيع فيه الزوجان الله ورسوله (هذه قصتي ص.150). وبهذا فقد أسس بوطالب في الفقه الإسلامي المتعلق بالمرأة اتجاها ثالثا يتماشى والظروف الراهنة لتطورات المجتمعات المسلمة دون الخروج عن أحكام الشرع (نفسه، ص.155).

وكانت مواقفه وآراؤه المجددة والشجاعة قد التقتْ مع إرادة الراحل الملك الحسن الثاني الذي فتح ملف إصلاح المدونة، لكن في حدود استبعاد ما يضر بالمرأة أو يخل بمبدأ إنصافيها وليس أكثر من ذلك. ومن تمّ، فقد عهد إلى عبد الهادي بوطالب برئاسة لجنة المراجعة التي قامت سنة 1993 بإدخال تعديلات وإصلاحات محدودة، غير أنها شكلت اللبنة الأساس في إقامة صرح الإصلاح.

ومن بين أبرز تلك التعديلات التي وافق عليها الملك تغيير اسم مدونة الأحوال الشخصية إلى اسم مدونة الأسرة، والتركيز على عدم كفاية الإصلاح.

وحين اشتذ{ النقاش، في سنى 1999، حول مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية الذي تفرق حولة المجتمع المدني بالمغرب بين مساندين للخطة وبين رافضين لها، وبين من وقفوا منها موقف التحفظ على بعض ما جاء فيها من مقتضيات وساندوا ما جاء فيها غير مخالف لأحكام الشرع، وقالت عنها بعض الحركات الإسلامية إن فيها ما يمس بالمقدس، كان بوطالب يدافع عن اتجاة آخر نابع من قناعاته ومواقفه المدافعة عن الوسطية وفقه التيسير (انظر مقالاته في كتاب "الإيسيسكو والصحوة الإسلامية").

لقد كان في الحقيقة هو المتحدث باسم هذا الاتجاه الذي يعتبر بأن عددا من مطالب النساء يمكن إرضاؤها بالاقتباس من بعض المذاهب الفقهية التي تأخذ بقه التيسير، وتحقيق المصالح، وإبعاد الضرر، وإعمال الاجتهاد الإسلامي المنفتح: إسلام الوسطية والاعتدال، إسلام السماحة والعدل والإنصاف وتكريم الجنس البشري ذكورا وإناثا، وتحقيق المساواة بين الجنسين التي لا تعني المماثلة وتقصي الفوارق، أو تلغي مبدأ توزع الأدوار والمسؤوليات بين الذكر والأنثى، بل تعتمد في قراءة النصوص الشرعية على استنباط مقاصد الشرغ مما ورد في الكتاب وصحيح السنة، على أن لا يُمس بأي حال بتوابث النصوص ذات الدلالات القطعية التي لا تقبل الاختلاف في التأويل.

كان مشروع الإصلاح يندرج في أفق بناء مجتمع حداثي ديمقراطي شامل اقتنع به بوطالب ودافع عنه باستماتة: مجتمع تلتقي فيه الحداثة مع الأصالة بأخذ أفضل ما يوجد في كلتيهما، وليس بينهما علاقة تناقض وتضارب، ولا يشكلان إشكالية متعارضة بل هما، كما سبق أن ذكر في كتابه: "السلفية استشراف مستقبلي"، ثنائية متكاملة قابلة للجمع والتوفيق بين شِقيْ معادلتها. وقد قال آنذاك إن الإسلام دين حداثة، لأنه يَجُبُّ ما قبله.

وللأحكام الجديدة التي ابتدعتها اللجنة الملكية الاستشارية بكل تأكيد مرجعية دينية شرعية ثابتة. فإنصاف المرأة واستبعاد الإضرار بها ورد الاعتبار إلى شخصيتها هو ما جاء به الإسلام وطبقه المجتمع الإسلامي سواء في عهد البعثة النبوية أو عهد الخلافة الراشدة أو في عهد ازدهار الإسلام.

لقد جاءت مدونة الأسرة لتؤسس لثقافة شرعية متجددة من جهة، وثقافة قانونية عصرية من جهة أخرى، ونجحت في التوفيق بين الثقافتين، انطلاقا من إقامة علاقات الأسرة على المساواة والتكامل والشراكة وتقاسم المسؤولية. وحددت المادة الرابعة من المدونة هذه العلاقة في تعريف الزواج الذي قالت عنه: "الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين" بينما كان الفصلالأول في مدونة الأحوال الشخصية يقول: "الزواج ترابط (أضيف في النص الجديد وتراض) على وجه الدوام (بدلا من "على وجه البقاء"). وحُذفت في النص الجديد عبارة جاءت في النص القديم: "مع تكثير سواد الأمة"، لأن الزواج كان في المدونة السابقة يعطي الأهمية الأولى للإنجاب. وكان يترتب على ذلك دخول الزوجين في شقاق، وتحميل الزوجة وحدها مسؤولية القصور عن الإنجاب بدون فحص طبي سابق، وتسرع الزوج إلى التطليق.

وكان الفصل 34 والفصب ل 35 من المدونة القديمة ينصان على الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين، وأفرد لحقوق الرجل على المرأة الفصل 36 الذي جاء ينص على (1) صيانة الزوجة نفسَها وإحصانها (2) طاعة الزوجة لزوجها بالمغروف (3) إرضاع أولادها عند الاستطاعة (4) الإشراف على البيت وتنظيم شؤونه (5) إكرام والدَي الزوج وأقاربه بالمعروف، فحًذف هذا الفصل بالمرة من النص الجديد لأنه كان يفرض على المرأة ما لا يفرضه على زوجها من منطلق الدونية للمرأة، وأدخِلت هذه الحقوق ضمن الحقوق المتبادلة بين الزوجين، وحُذف بالتالي موضوع طاعة الزوجة لزوجها  بالمعروف: فالعلاقة الجديدة التي اسست لها المدونة الجديدة تقوم على تقاسم المسؤولية بين الزوجين، كل منهما مُلزَم بالعفة والإحصان فيما يخصه، وكل منهما مطالب بالحفاظ على العرض والنسل وتبوث النسب، والعلاقة بينهما ليست علاقة سيد وأمَة، ولا علاقة رب البيت بخادمته، وكل منهما طوّقه النص الجديد بتحمل مسؤولية القِوامة على البيت اي تسيير شؤون البيت بالشراكة المتساوية، وتسيير شؤون الأطفال بالإرادة المشتركة.

إن إهمية إصلاحات المدونة تكمن في أنها جاءت ملائمة لتوجهات النهضة الحداثية مثلما أنها متلائمة مع مقاصد الشريعة، وفي أنها تمكنت من التوفيق بين مقتضيات الشرع ومهمة القانون العصري، وفي أنها خطوة كبرى على طريق الانتقال الديمقراطي الحداثي، جيث صدرت في شكل قانون أقره ممثلو الأمة بالإجماع. وبانعقاد الإجماع على نص المدونة تم تلافي خطر الشرخ والانفصال الذي كان يهدد مجتمعنا المغربي بانقسامه إلى جبهة رفض الإصلاح المتقوقعة في خانة التطرف وجبهة المناداة بالإصلاح الملتزمة بالأمر الإلهي الذي يحض على التجديد وتطوير الأحكام الشرعية في نطالق الثوابت التي لا تقبل التغيير.

لم يكن مفهوما ولا مقبولا أن يبقى نظام الأسرة بالمغرب يعكس أحكاما وضعها تراث فقهي توقف عن الحركة وجمد في مفاهيم مر عليها أزيد من من عشرة قرون لم يتناولها خلالها التجديد والتطوير. ولم يكن معقولا أن يكون الدستور المغربي والقوانين الدولية تعطي المرأة  حقوقها المدنية كاملة كمواطنة كاملة المواطنة وتحرمها من نفس الحقوق بوصفها زوجة أو بنتا أو أما.

يتضح من كل ما سبق عمق نظرة عبد الهادي بوطالب إلى قضية المرأة، وكذا الشجاعة النادرة التي تحلى بها لسبر خبايا ومنعرجات هذا الموضوع الشائك. وهو في هذا الموضوع، كما في غيره، يعمل مبدأ الاجتهاد الذي يعتبره مدخلا للتجديد الديني فلا أحد في نظره يحق له أن ينكر الاجتهاد لأن الدين الإسلامي جاء يحث  على الإبداع والابتكار وإعمال الفكر في جيمع قضايا الحياة المستجدة.

د. عبد الهادي بوطالب

دار الثقافة

الطبعة الأولى : 2005/1426

مؤلفات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي