الجمعة 27 سبتمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: الاسلام وحقوق الانسان (21)

الخميس 20 مايو 2021

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

الإسلام وحقوق الإنسان

الحلقة (21)

الإسلام ثورة تحريرية للإنسان ونظام عالمي جديد حرر الإنسان من سلطة الأرض وأخضعه فقط لسلطة السماء، واتخذ له شعار الله أكبر. فالله ليس له أب ولا ولد “لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد”. هو غير مشخص لا في ابن، ولا في صنم منحوت، أو صليب مصنوع، أو كهنوت بشري يحكم فوق الأرض باسم الله. والناس جميعا متساوون، فهم عباد الله أو عبيده. وهذا التوحيد الكامل، واللاتشخيص الشامل هما اللبنتان الأوليان في صرح تكريم الله للإنسان ورفع قيمته، إذ ارتقى به عن عبادة نظيره، أو ما صنعت يداه، أو ما تشخصه الأبصار في عالم الشهادة. “لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير” (سورة الأنعام، الآية 103).

وبنى الإسلام هذه القيمة على قاعدة تكريم الله للإنسان بنوعيه الذكر والأنثى كجنس عالمي في المطلق، فلا أحد ولا شئ يعلو فوق الأرض الجنسَ البشري عامة ويفضُله. وجاءت هذه الوحدة الإنسانية العالمية في آية : “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” (سورة الحجرات، الآية 13)، فالجنس البشري وحدة متنوعة تفرقت فصائلها، لكن توحدت في الإنسانية لتتعارف، وتستفيد كل فصيلة من عطاء أختها الأخرى.

أما تكريم جنس الإنسان في المطلق فقد جاء في آية : “ولقد كرمنا بني آدم”، (سورة الإسراء، الآية 70) هذا الإنسان الذي استخلفه الله على الأرض بصرف النظر عن جنسه ودينه وهُويته وخصوصيته. كل بني آدم مكرﱠﱠمون من الله، من آمن منهم به، ومن لم يؤمن به، من أحسن منهم ومن أساء، لكنهم يتفاضلون ويتعامل الله معهم على مقاييس التقوى وطاعته والتحلي بالفضيلة. والله في عطائه المتواصل لإسعاد البشرية، لا يحرم من هذا العطاء المادي لا كافرا ولا ملحدا ولا مذنبا “كلا نُمِدﱡ، هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا” (سورة الإسراء، الآية 20) وهذا مدخل إلى حق المساواة الذي جاء به الإسلام وأغنى مضامينه.

وللإسلام تجاه حقوق الإنسان تنظير خاص، فهو يعتبرها حقوقا للبشرية وحقوق الله أيضا. إن تخويلها لعباده كافة وبدون تمييز بينهم ولا تفريق، ممارسة من الله لحقوقه، وممارستها منهم ممارسة لواجب مصدره الحق الإلهي. واحترامها وصونها وعدم المس بها واجب على الإنسان. والإخلال بها إخلال بالحق الإلهي، إذ الله هو مالك هذه الحقوق، وواهبها للبشر، طبقا لمبدأ تكريمه للبشر، ولتخويله الإنسان حق استخلافه، والنيابة عنه في الأرض.

وإذا كان وصف الغرب لهذه الحقوق بالطبيعية يترتب عليه –تشريعا وممارسة- بقاء هذه الحقوق مصونة، فإن وصفها في الإسلام بالإلهية وإطلاق اسم حقوق الله عليها، يعطيانها ضمانة أقوى وأرسخ، إذ ما يعطيه البشر لنفسه بإرادته قابل للتغيير بنفس الإرادة. أما ما يمنحه الله بإرادته للبشر فله صبغة الدوام، وهو من الثوابت التي لا يمسها التغيير. وهذا ما يشكل الضمانة الكبرى لاستمرارية تمتع الإنسان بهذه الحقوق. أما حقوق الإنسان كما هو متعارَف عليها اليوم في المجتمع الدولي، فما تزال تفتقد الضمانات القانونية لحمايتها من المس بها، إذا استثنينا بعض الآليات التي أخذ المجتمع الدولي يستحدثها لمعاقبة من يُخِلون بها، كمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي جرائم ضد الإنسانية.

ولقد بلغ التنظير الإسلامي لربط حقوق الله وحقوق الإنسان برباط واحد إلى حد التحام الحقين وتشابكهما، مما يصعب معه إقامة حدود فاصلة بينهما. إن كفالة حق الله لضمان هذه الحقوق لا تنفصل عن كفالة حق عباده بممارستها.

كفل الإسلام حقوق الإنسان منذ تصوره جنينا بجسد وروح في بطن أمه. وقد منع الإخلال بحقوقه التي يصبح مستمدا لها منذ التكوين. وتبتدئ بحقه في الحياة وهو جنين، فإجهاضه حرام، وهو من باب قتل النفس التي حرم الله قتلها. وأعطى الجنين حق العناية به والمحافظة عليه، ووضع عقوبات على أمه إذا أخلت بحسن تعهده وتربيته. وإلى أن تضع المرأة حملها، لا تُقسَم تركة أب الجنين إلا بعد وضعه من أمه، ليأخذ نصيبه من تركة أبيه. ثم أعطاه منذ الولادة حق إرضاعه وعلاجه والنفقة عليه من والديه إلى أن يبلغ، وأوجب على والديه في مختلف مراحل العمر تربيته، وتعليمه، وتدريبه على الشعائر الدينية كأداء الصلاة، لكن لا يصح من والديه إكراهه على الصوم والحج قبل أن يكتمل نموه.

وتظل حقوق الإنسان تلازم حياة الإنسان في جميع مراحل عمره، فمن حقوقه على المجتمع كفالته اجتماعيا عند العجز والمرض والشيخوخة. وقد حرم الإسلام قتل النفس دون تحديد لذلك، لا بقيد الدين ولا بقيد الجنس أو العرق، ولم يفرق في ذلك بين جنسي الذكر والأنثى، بل ندد القرآن بما كان يقوم به بعض العرب قبل الإسلام من وأد البنات، خوفا من الفقر والعار. وقال إن هذا الجرم الفظيع سيكون أول ما يحاسب الله عليه مرتكبيه يوم القيامة : “وإذا الموؤودة سُئلت بأي ذنب قُتِلت” (سورة التكوير، الآية 8).

ومنع الإسلام الانتحار احتراما لحق الإنسان في الحياة وندﱣد به. وأطلق على المنتحر وصف المدبِر أي الذي خسر دينه ودنياه، وحرم الصلاة على جنازته ودفنه في مقابر المسلمين، وصنفه بعض علماء الدين الإسلامي في المشركين، لأنه أشرك بالله عندما تولى قبض روحه، وهذا شأن خاص بالله نافخِ الأرواح وقابضِها، في أجلها المسمى المقدر لها.

ويموت الإنسان ولا تموت حقوقه، فالإسلام ضمن الحقوق للإنسان طيلة الحياة وحتى بعد الموت، بحقه في الكفن الطاهر، وغسله، وتشييع جنازته، والصلاة عليه، ودفنه، واحترام قبره. وحبسه عليه فلا يجوز دفن ميت آخر عليه، ومنع الكشف عليه بعد الدفن، والتصرف في أعضائه وجسده.

وضمن الإسلام حق الحريات بجميع أنواعها ومن بينها حرية العقيدة، “فلا إكراه في الدين” (سورة البقرة، الآية 256). وأمر تبعا لذلك أن يبقى كل من يوجد في ديار الإسلام على دينه إن شاء : “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. (سورة الكهف، الآية 29). وطلب من رسوله محمد أن يقول لمخالفيه في الدين : “قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين” (سورة الكافرون).

والإسلام يعترف بالديانات السماوية كلها، فهو كما قال القرآن على لسان المسلمين : “لا نفرق بين أحد من رسله”. وقد تعايش الإسلام مع معتنقي مختلف الديانات في المجتمع الإسلامي وغيرهم من اليهود والنصارى، وضمن لهم حقوقهم الدينية والسياسية والاجتماعية، في الدستور الذي أعلنه الرسول عندما استقر بالمدينة، وسمي بالصحيفة، وهو أول دستور مدون في العالم.

ومن حقوق الإنسان التي أسسها الإسلام الحقوق المتصلة بالسلام والحرب، فمهما أمكن الوصول إلى السلام تَحرُم الحرب التي لا تُشنﱣ في الإسلام إلا لرد عدوان بمثله : “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا. إن الله لا يحب المعتدين” (سورة البقرة، الآية 190). “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم” (سورة البقرة، الآية 194).

وحث الإسلام المسلمين على الأخذ بخيار السلام كلما أظهر العدو جنوحا إليه : “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” (سورة الأنفال، الآية 61). مما يعني أنه ينبغي أن لا يُعتمَد خيار الحرب إلا عند الضرورة القصوى.

وأنصف الإسلام المرأة، وكرﱠمها، وخولها حق المساواة بالرجل في الأحكام. فجميع أحكام الشريعة الواردة في القرآن والسنة موجهة إلى الرجل والمرأة بدون تمييز بينهما. ويقول الرسول في ذلك : “النساء شقائق الرجال في الأحكام”. وقد مارست المرأة في الإسلام حقوقها السياسية والاجتماعية، فكانت مفتية في أمر الدين، ومفسرة للقرآن، وراوية للحديث، وضابطة شرطة، ومشرفة على مرفق اقتصادي هو تدبير شؤون السوق وشؤون الحِسْبة، وخطيبة في محافل السلم وجحافل الحرب. وكانت عائشة زوجة النبي في ذلك أصدق مثال. وقد مارست المرأة حق الانتخاب الذي كان يتشكل في بيعة الحاكم بدءا من عقد النبي عليه السلام بيعة النساء إياه، بجانب بيعة الرجال. وقد جاء ذلك صريحا في القرآن.

وناهض الإسلام العنصرية، وأبطل التمييز العنصري، عندما أعلن الرسول أن لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود، وعندما استعمل لوظيفة الأذان –وهي من أهم الوظائف الدينية-، عبدا حبشيا أسود، هو بلال بن رباح. وكان من بين صحابته المرموقين منحدرون من أعراق مختلفة، كان من بينهم صُهَيْب الرومي، وسلمان الفارسي، وعندما أجاز زواج المسلم من نساء أهل ا لكتاب، وأعطى القدوة من نفسه، فتزوج يهودية ونصرانية أصبحتا من أمهات المؤمنين، وعندما جاء في القرآن : “وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلﱞ لكم وطعامكم حِلﱞ لهم”.

يحسن أن نختم بالقول إن للإسلام منظومة متكاملة ذات خصوصيات يمكن إطلاق اسم شريعة حقوق الإنسان عليها. وقد أصبحت تفاصيلها معروفة ومسلما بها. وهي تدخل في نظام التحرير العالمي الشامل الذي جاء به الإسلام، ودخل حيز التطبيق قرونا عدة.

ولا نود أن نطيل بذكر تفاصيل حقوق الإنسان في الإسلام، فقد قام بذلك باحثون علميون استخرجوا من القرآن الكريم الآيات التي سنت حقوق الإسلام، وصنفوا مضامينها، وأوصلوها إلى ثمانية وثلاثين. وهي : (1) حقوق الإنسان في عموميتها، (2) حقوق ما في الأرحام، (3) حق المولود، (4) حق اليتيم، (5) حق السائل والمحروم، (6) حق المساكين، (7) حق ابن السبيل، (8) حق ذي القربى، (9) حق الأسير، (10) حق التربية والتعليم، (11) حق الوالدين، (12) حق الجار القريب والجار البعيد، (13) حق بناء الأسرة، (14) حقوق المرأة، (15) حقوق الزوج على الزوجة وحقوق الزوجة على الزوج، (16) حقوق المودة والمعاشرة الزوجية، (17) حق المساواة بين الرجل والمرأة، (18) حق الشيخ، (19) حق الطفل، (20) حق الميت، (21) حق المريض، (22) حق الإنسان في العدل، (23) حق كرامة الإنسان، (24) حق التبني، (25) حق اللجوء، (26) حق استخدام الإنسان للطبيعة، (27) حق العمل وجزاؤه، (28) حق الهجرة والإقامة، (29) حق الحياة، (30) حق الدية في النفس، (31) حقوق الأقليات، (32) حق الحرية الدينية، (33) حق الإنسان في حكمه بالشورى، (34) حق الأموال والممتلكات، (35) حق الأمن من الخوف، (36) حق الأمن الغذائي، (37) حق مساءلة الحاكم، (38) وحق قيام الأحزاب والمعارضة.

إننا نعتقد أن التعريف بما جاء عن حقوق الإنسان في الإسلام والديانات السماوية الأخرى، والمعتقدات القديمة خير ما يخدم رسالة إشاعة ثقافة حقوق الإنسان التي ما تزال في حاجة إلى المزيد من الجهود الفكرية، وترسيخ قيمها في النفوس، قصد جعلها منظومة عالمية لا جدال فيها. وما من شك في إن إشاعتها عبر العالم ستتعزز بتسليط الأضواء على مرجعيتها الدينية، ولم نرد من هذه الدراسة المقتضبة إلا هذا الغرض فقط.

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي