الجمعة 27 سبتمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: الاجتهاد في عصر المذاهب والتدوين (14)

الخميس 20 مايو 2021

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

الاجتهاد في عصر المذاهب والتدوين 

الحلقة (14)

وقد ذكرنا تحديد زمنه بداية ونهاية في المقدمة أعلاه. ويُعرف بعصر المجتهدين، وعصر ازدهار الفقه، وعصر الفقه الذهبي. وهو عصر ازدهرت فيه الحركة العلمية وتنامى فيه الاجتهاد، ودخلت فيه إلى العالم الإسلامي علوم جديدة كعلمي الفلسفة والمنطق، وغلب على علمائه المناظرة والجدل، وأخضع فيه بعض المجتهدين –ممن يُدعوْن بالمتكلمين- الفكر لقواعد علم الكلام وفلسفته. وقد برزت فيه أسماء ثلاثة عشر فقيها مجتهدا مرموقا هم الذين دُونت مذاهبهم في كتب. ومن بينهم الأئمة السنيون المجتهدون الأربعة : مالك بن أنس بالمدينة، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت بالكوفة، وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي بمصر، وأحمد بن محمد بن حنبل ببغداد.

وقد شاع في تقييم أعمالهم الاجتهادية أن الإمام مالكا كان يأخذ بالحديث، وأن أبا حنيفة كان يأخذ بالرأي. ولا ينبغي أن يُحمل هذا الحكم على إطلاقه، فالمجتهدون جميعا أخذوا بالحديث والرأي معا، ولم يكونوا يأخذون بالرأي إلا عندما كانوا لا يجدون نصا من القرآن والسنة. ومرجع هذه المقولة أن مالكا كان أكثر اطلاعا على الحديث، فكان لا يحتاج كثيرا إلى القياس، بينما استعمل أبو حنيفة القياس بكثرة حتى لقد قال عنه أحمد أمين في الحزء الثاني من كتابه “ضحى الإسلام” : “كان أبو حنيفة قياسيا سلك في القياس مسلكا فاق به كل من سبقه”.

وقد تحدث أبو حنيفة نفسه عن طريقته في الاجتهاد فقال : “إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله (ص) والآثار الصحاح التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع من شئتُ، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد ابن المسيب –وعدﱠ رجالا قد اجتهدوا-، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا”. وهكذا كان هذا الإمام لا يأخذ بالرأي إلا بعد استنفاد طرق الاجتهاد لاستنباط الأحكام من أصولها بما في ذلك قول الصحابي.

وقد ذكر الشعراني في الميزان أن أبا حنيفة قال أيضا : “كذب والله من افترى علينا فقال إننا نقدم القياس على النص. وهل يُحتاج بعد النص إلى قياس؟” كما نقل الشعراني في نفس الكتاب عن أبي حنيفة قوله : “نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة. وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلا قسنا حينئذ مسكوتا عنه على منطوق به”.

إن الأئمة المجتهدين في هذا العصر عملوا بإجماع الصحابة والقياس (وهو الذي أكثر أبو حنيفة من استعماله وتوسع فيه أتباعه)، كما عملوا بالاستحسان الذي هو عدول المجتهد عن الحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الحكم الأول. وقد قيل إنه ما من إمام من الأئمة الأربعة المجتهدين إلا وقاس واستحسن. ويضاف إلى ذلك عند مالك الأخذ بما فعل الصحابة وهو الاستصحاب الذي يدخل فيه قول الصحابي الذي يُعتمَد بشروطه. ومنها أن يصح سنده، وأن يكون من أعلام الصحابة، وأن لا يخالف قولُه الحديثَ المرفوع. وقد اختلف علماؤنا في حُجية مذهب الصحابي على أربعة اتجاهات لا نطيل بذكرها.

ويقوم المذهب المالكي للتشريع في الفروع على اعتماد القرآن والسنة وإجماع الصحابة وإجماع أهل المدينة، والقياس وقول الصحابي، والعرف والعادة، وسد الذرائع، والمصلحة المرسَلة.

وقد خلق اعتماد العرف أصلا من أصول التشريع قاعدة “الثابت بالعرف كالثابت بالنص”، وقاعدة “الثابت بالعرف كالثابت بالشرط”. واعتمد الآئمة المجتهدون جملة من الأعراف والعادات التي لا تتناقض مع روح الشريعة ومقاصدها، فما وجدوه من أعراف وعادات سليمة في الأراضي المفتوحة للإسلام التي ساسوها وحكموها بالشريعة جعلهم يُضيفون إلى قواعد التشريع قاعدة : “العادة محكمة”. وفي ذلك قال الفقهاء : “كل ما ورد به الشرع مطلقا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يُرجَع فيه إلى العادة والعرف كوقت الحيض وقدره، وإحياء الأرض الموات، وكالأيمان التي تُبنى على المفهوم اللغوي المراد منها أوﱠلا ثم على العرف”. ولذلك لا يحنث من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا، مع أن الله سمى في القرآن السمك لحما طريا.

وكان من بين الأسباب التي غيرت اجتهادات الإمام الشافعي وهو بمصر عن اجتهاداته بالعراق، تغاير الأعراف والعادات واختلاف البيئة بين البلدين. وذلك هو ما دُعي بالمذهب القديم والمذهب الجديد للشافعي. واعتماد العرف والعادة في التشريع هو الذي أدخل في شروط المجتهد شرطا جديدا هو معرفته بعادات الناس.

والمالكية لا يأخذون بالقياس إذا ما أدى إلى مخالفة العرف، والعرف عندهم يخصص العام ويقيد المطلق. أما اعتماد المالكية المصلحة المرسَلة فلأن الشريعة جاءت لحفظ مصالح البشر. وأما اعتمادهم سد الذرائع فلأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. فالإصلاح لا يتم إلا بدرء الفساد ويأتي عادة بعده لا قبله. وقد بالغ الإمام مالك في الأخذ بسد الذرائع انطلاقا من هذا الاجتهاد السليم الذي يعززه المنطق الصائب. وهكذا جعل بعض المندوبات مكروهات حتى لا يعتقد العوام وجوبها أو سنيتها، ككراهته صيام ستة أيام موالية لليوم الأول من شوال (عيد الفطر)، وأولﱠ الحديث الوارد في ذلك الذي جاء فيه : “من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر” فقال إن المراد من شوال جميع شهور السنة كلها إلا رمضان، أي شهور الإفطار مُقابل شهر الصيام. وهو اجتهاد سد به ذريعة الوقوع في تحريف حكم شرعي.

ولقد غني الفقه الإسلامي طيلة هذا العهد بمعالجته للنوازل والمستجدات التي واجهت الإسلام على طريق امتداده عبر المعمور. وهي مستجدات وضعت على الفكر الإسلامي تساؤلات عن حكمها الشرعي، فاهتدى بتخصيب الاجتهاد إلى معرفة أحكامها. ووجد المسلمون في اختلاف المذاهب حول أحكامها رحمة وسعة، ولم تبق ثغرة في التشريع إلا سدها الاجتهاد، مما ظهر معه الإسلام بفضل هذا النشاط الفكري المبدع على أنه دين ودنيا، ونمط حياة كامل، دين يساير التطور ولا يعاكسه، قادر على الإجابات على التساؤلات المطروحة لا يتجاوزه التطور، دين صالح لكل زمان ومكان مهما اختلفت التطورات، وتنوعت البيئات التي  يحل بها.

كانت للأقطار التي دخلت في الإسلام خارج الجزيرة العربية ضمن الأمبراطوريتين الفارسية والرومانية تنظيمات متميزة في جميع المجالات والميادين : تنظيمات في الحكم والسياسة، وفي المجالات الزراعية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية، وكان فيها الصالح المفيد والمعوج الفاسد، فكان هَمﱣ الاجتهاد الفقهي أن يتبنى حَسَنها ويجد له مبررا شرعيا في أصول الإسلام، وأن يقوﱢم معوجها ليصبح صالحا مسايرا لتعاليمه، وحرﱠم ما وجده منافيا لأصل الشريعة ومنطوقها وروحها فاستبعده، وأبقى على الأعراف والعادات التي لا تخل بالمنهج الإسلامي ولا تجافيه.

وبذلك تعمقت اجتهاداتُ الفقه شؤونَ الحكم والسياسة والزراعة والتجارة والمال والاقتصاد. وهي مجالات إن لم تكن كلها جديدة على التشريع فإن تقنيات تعاملها كان أكثرها جديدا بالنسبة للمسلمين الذين أصبحوا في مراكز الحكم والسلطة.

نظم الفقه شروط الولاية العامة والخاصة وتفاصيل قواعد الحكم، كما نظم قواعد الأسرة نكاحا وصداقا وطلاقا ونفقة ومُتعة ورضاعا. وقَعد نظام المواريث وأرساه في تفاصيله الفرعية، وخصص له علما خاصا هو علم الفرائض، وتعامل مع نظام الرق الذي كان سائدا فقننه في تفاصيل أحكامه. واقتحم البيوعات عامة وبيوع الربا خاصة، بما يُبعد كل ذلك عن الربا الذي كان شائعا في الأراضي الإسلامية الجديدة. وكتاب البيوع من أغنى ما حفل به الفقه الإسلامي. كما حدد الفقه الشروط الشرعية لعلاقات الدﱠيْن إدانة واستدانة واستحقاقا. واهتم الفقه بأبواب أخرى كان تنظيمها ضروريا ومستعجلا كأبواب الشركات : شركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه، وبيع السلَم، وتنظيم أحكام الشفعة، والقسمة، والرهن، والكفالة، والحوالة، والوديعة، والعارية، والغصب، والضمان، والهبات، والسرقات. وفي المجال الزراعي نظم المُساقاة (مثلا) وضبط أحكام صحتها وأحكام فسادها. ولم يغفل حتى التشريع في ميدان القانون الإداري وقانون البحر. وبذلك أصبح الفقه في ميدان المعاملات مرجعية التشريع الغربي الحديث الذي لم يملك الاستغناء عن الاقتباس منها لما حفلت به من مقتضيات قانونية شاملة.

وبذلك بدا الفكر الاجتهادي الإسلامي وكأنه في مسابقة مع الزمن والتطور حتى لا يعطل جمودُه الإسلامَ عن اقتعاد مكانته كدين حضاري في المجتمعات التي التحقت به.

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي