الجمعة 27 سبتمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: عصور الاجتهاد في تاريخ الإسلام (12)

الخميس 20 مايو 2021

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

عصور الاجتهاد في تاريخ الإسلام 

الحلقة (12)

يُقسم تاريخ الاجتهاد في الإسلام إلى أربعة عصور :

الأول : هو عصر اجتهاد الرسول وصحابته طيلة عهد البعثة والرسالة، وينتهي بوفاة الرسول وقد تقدم الحديث عنه قبل.

والثاني : هو عصر ما بعد وفاة الرسول وقيام خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة. وهي فترة ابتدأت بخلافة أبي بكر الصديق سنة 11 هجرية، واستمرت إلى قيام عهد معاوية بن أبي سفيان وتنازل الحسن بن علي له.

والثالث : هو العصر الأموي، ويبتدئ بنهاية الخلافة الراشدة سنة41 هجرية وينتهي بأوائل القرن الثاني الهجري.

والرابع : عصر المذاهب أو عهد التدوين، ويطلق عليه العصر الذهبي، ويبتدئ من أوائل القرن الثاني الهجري ويمتد إلى منتصف القرن الرابع.

وجاءت بعد ذلك فترة خامسة هي عصور توقف الاجتهاد والاكتفاء بالتقليد والاتباع. وهي فترة ما تزال مستمرة إلى قرننا هذا، إذا ما استثنينا بعض الجهود المعاصرة لإغناء الفقه باجتهادات فردية أو جماعية محدودة، لا تملك سلطة فرضها على المجتمع الإسلامي عبر العالم ككل لا يتجزأ.

الاجتهاد في عصر الخلفاء الراشدين :

اصبح الاجتهاد بعد وفاة الرسول ضرورة ملحة، ولم يعد عنه مناص لزوال مرجعية الاعتماد على الوحي والسنة، ولكون الفتح الإسلامي أخذ يمتد خارج الحزيرة العربية، وكان عليه أن يستوعب حضارات مختلفة لها قضاياها ونوازلها ومستجداتها، ولشعوبها أعراف وتقاليد وأنماط حياة مختلفة، مما لا عهد به لمسلمي البعثة النبوية من قبل، ولا للأجيال العربية الإسلامية الصاعدة في كنف الخلافة الراشدة. وقد وضع كل ذلك على الحكم الإسلامي تساؤلات كان عليه أن يجيب عليها، بإغناء التشريع والتنظيم وسد الثغرات حتى لا يبقى في المنهج الإسلامي فراغ.

وفي مواجهة ذلك كله، اعتمد المسلمون منهجية مضبوطة لمؤسسة الاجتهاد تحقق غاية سد الثغرات، مع التقيد باصول التشريع من كتاب وسنة وإجماع، وعمل الصحابة وآرائهم.

وبمقتضى ذلك كانت هذه المنهجية تقوم على عهد الخلفاء الراشدين على مسلسل رباعي : هو البحث أولا في كتاب الله عن أحكام المستجدات، فإن لم يوجد فيه نص لجأ المجتهد إلى نصوص السنة النبوية الثابتة، فإن لم يجد فيها لجأ إلى صحابة رسول الله العارفين بالأحكام الشرعية، فإن لم يجد عندهم الأجوبة اعتمد رأيه. وقد أضاف عمر إلى هذا المسلسل (بعد أن أصبح الخليفةَ الثاني) النظر في أقضية سلفه أبي بكر الصديق، بعد النظر في الكتاب والسنة، وقبل أن يستشير ويجتهد.

ونقرأ في تاريخ الإسلام أنه كان بجانب الخليفة مجلس شورى نطلق عليه اسم مجلس الاجتهاد. وكان أبو بكر أول من أسسه إثر توليه الخلافة، وفعل عمر ذلك أيضا.

جاء في تاريخ التشريع الإسلامي للخضري : “كان الشيخان أبو بكر وعمر إذا استشارا في حكم أشارت به هيئة الشورى تبعه الناس ولا يسوغ لأحد أن يخالفه”. وذلك يعني أن مجلس الاجتهاد هذا كان هيئة تشريعية تنظيمية تقريرية نافذة الأحكام والقرارات. وبهذه الطريقة قلت الخلافات في الأحكام على عهد هذين الخليفتين.

وجاء في كتاب المستصفَى للغزالي : “أجمع الصحابة على الحكم بالرأي والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ولم يجدوا فيها نصا. وهذا ما تواتر إلينا عنهم تواترا لا شك فيه.

وورد في المصدر نفسه : “أن عبد الله بن مسعود كان يوصي الذين يَلُون القضاء بالأخذ بالرأي ويقول : “الأمر في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين. فإن لم يكن شئ من ذلك فاجتهد رأيك”.

على الاجتهاد والقياس وإعمال الفكر تركزت وصية عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء بالبصرة. ومما خاطبه به قوله : “ثم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس فيه قرآن ولا سنة. ثم قايس بين الأمور عند ذلك. واعرف الأشياء والأمثال، وقس الأمور برأيك ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق”.

وحفل عصر الخلفاء الراشدين بالاجتهادات التي اهتدى إليها مجتمعهم بقيادتهم لاستنباط الأحكام للمستجدات وحل المشاكل الطارئة. فلنتعرض لبعضها كأمثلة باقتضاب شديد.

وكان أولها حكم الصحابة بخلافة أبي بكر الصديق في غياب وصية نبوية تقضي أو توصي بذلك. وقاسوا خلافته على عهد النبي له بالنيابة عنه في الصلاة في مرضه الأخير قبيل وفاته. وقالوا : “رضيه رسول الله لأمر ديننا أفلا نرضاه لأمر دنيانا؟”.

وعلى القياس اعتمد أبو بكر في العهد إلى عمر بالخلافة معتبرا أن العهد يساوي عقد البيعة (وبه تولى هو الخلافة) ويقاس عليه. وكتب : “هذا ما عهد به أبو بكر”. ولم ينكر عليه أحد ذلك.

وما يعرف بأولويات أبي بكر الصديق جميعُها من اجتهاداته. فهو أول من جمع القرآن بعد مراجعة عمر له في ذلك. وهو أول من سماه مصحفا. وهو أول من اتخذ بيت المال، (وولى عليه أبا عبيدة بن الجراح). واجتهد في قتال مانعي الزكاة قائلا : “والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة”، “ولو منعوني عقالا مما أعطوا النبي لقاتلتهم عليه”. وقد قال في الكلالة برأيه، وقسم بعض المواريث برأيه، وسوى في العطاءات باجتهاده.

وللخليفة عمر بن الخطاب اجتهادات وآراء اهتدى إليها بإعمال الفكر كذلك. ومنها قراره بدء التاريخ من حادث الهجرة، وضربه شارب الخمر ثمانين جلدة، ورصده مرتبات لحفَظة القرآن، وجمعه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح هو أبي بن كعب. ومن اجتهاداته إناطته اختيار الخليفة بعده بستة جعل الشورى في هذا الشأن بينهم. فوسع بذلك دائرة الشورى واختيار الأصلح. ومن ذلك أيضا قطعه الزكاة والعطاء عن المؤلفة قلوبهم مراعيا في ذلك تغير المصلحة بتغير الزمان. وهو بذلك لم يعطل نصا قرآنيا بل نظر إلى علة النص لا إلى ظاهره، واعتبر أن النص كان ملائما لظروف ضعف الإسلام ويمكن تجاوزه بعد قوة الإسلام وامتداده. إنه اجتهاد في فهم النص وليس اجتهادا لتغيير النص. وفي هذا النطاق أيضا يدخل اجتهاده لإيقاف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة، نظرا لكون السرقة أصبحت تتم في ظروف المجاعة بدافع الحاجة والضرورة وليس بقصد الإجرام. وهذا التغيير الحاصل في المجتمع يشكل على الأقل شبهة تُدرأ بها الحدود. وقد اُثر عنه قوله “أن أعطل الحدود في الشبهات خير من أن أقيمها في الشبهات’.

ومن اجتهاداته أنه أمضى الطلاق الثلاث على من نطق بطلاق زوجته ثلاثا في كلمة واحدة خلافا لما كان معمولا به قبله من التطليق مرة واحدة، وذلك عندما لاحظ أن الناس أكثروا من التلفظ بالثلاث. وخالف اجتهاد أبي بكر فلم يسو في العطاءات عندما تدفقت في عهده الأموال على بيت المال بسبب امتداد الفتح الإسلامي، فوزع الأموال حسب مقاييس الأسبقية في المراتب، ونوعية الأعمال المبذولة، والحاجة إلى المال.

واجتهد عمر بن الخطاب فقدﱠر دية القتل نقدا بعد أن كانت على عهد البعثة والرسالة إبلا. وذلك اجتهادا منه بعد أن غلت أسعار الإبل. واجتهاداته في مجالات القانون –حسب تعبير العصر- متعددة سواء في الميدان المدني أو الميدان الجنائي أو الميدان الإداراي، وأفردت لها كتب يُرجَع إليها.

ومن اجتهادات عثمان بن عفان جمعه القرآن في مصحف واحد وحرقه لما سواه. وهو اجتهاد زكاه علي بن أبي طالب بقوله : “لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل”، ومن اجتهاداته إتمامه الصلاة أربع ركعات في منى. وقيل في ذلك إنه أتم الصلاة بمنى أربعا من أجل الأعراب الذين قدموا للحج، لأنهم كثروا عامئذ فعلمهم أن الصلاة أربع وخشي أن يفهموا أنها ركعتان دائما، حتى لا تشتبه عليهم عدد الركعات. ومن اجتهاداته تركه الناس يدفعون زكاتهم تلقائيا بدون استحصال لها من السعاة مؤوﱢلا آية: “خذ من أموالهم صدقة”، على أنها إنما تؤكد حق الإمام في أخذها ولا توجب عليه جمعها. وقيل عن ذلك أن هذا لا يُسقط طلبها  من لدن الإمام إذا ما تبين له أن بلدا من بلاد الإسلام لاَ يؤديها.

واجتهادات علي بن أبي طالب وفيرة حتى لا تكاد تُحْصى. فقد كان يجيل فكره الثاقب في معالجة المستجدات والمشاكل فتيا وقضاء. وقد جاء عن الإمام النووي في كتابه “تهذيب الأسماء واللغات” : “وسؤال كبار الصحابة له ورجوعهم إلى فتاويه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلة مشهور”. وهذا ما جعل الناس يقولون عنه : “قضية ولا أبا حسن لها”. وهي مقولة أصبحت مَثلا. وكان عمر بن الخطاب يتعوﱠذ من مشكلة لا يوجد لمباشرة حلها علي بن أبي طالب.

ومن اجتهاداته الميسرة أنه كان لا يحبس في دَيْن ويقول إن حبس العاجز عن أداء الدين ظلم. وكان لا يحبس إلا القادر على الأداء الغني المماطل. ومن اجتهاداته قياس حد شرب الخمر على القذف، وتحديده عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بأبعد الأجلين : وضع الحمل ومضي أربعة أشهر، بينما كان الأمد قبله محصورا في وضع الحمل.

وقد تجمع في فترة الخلافة الراشدة رصيد اجتهادي حافل نتج عن قيام المجتهدين وعلى رأسهم الخلفاء باقتحام المستجدات، واستنباط أحكامها الشرعية. وذلك بآليات محكَمة هي : إما قيام المجتهد بقراءة متفحصة لنصوص الكتاب والسنة الثابتة عن الرسول وتفسيرها بعد قراءتها قراءة جديدة، أو بفهم تلك النصوص على ضوء المصلحة العامة التي هي غاية التشريع، أو بطريق إعمال القياس على الأشباه والنظائر التي ورد عليها التنصيص في الكتاب والسنة، أو باستعمال الرأي بعد الاستشارة مع ذوي الاختصاص والمعرفة، أو باستعمال الرأي مباشرة –وبدون مشورة-، من لدن القادر على الاجتهاد والمؤهل له عندما لا يوجد  نص ولا قياس ولا إجماع. وقد برزت خلال هذا العصر طائفة من الصحابة كانوا مؤهلين وقادرين على اقتحام شُعَب الاجتهاد، قسمهم الإمام ابن حزم الظاهري في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام” إلى ثلاثة أصناف : المكثرون في الفتيا، والمتوسطون، والمقلون، على غرار التقسيم الوارد في رواة الحديث.

وكان المكثرون سبعة هم : عائشة، وعمر، وعلي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود. وكان أكثرهم في الفتيا عبد الله بن عباس الذي جُمعت فتاويه في عشرين كتابا.

وكان من بين الأصناف الثلاثة المجتهد العام، والمجتهد الخاص أو المتخصص.

وقد خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فكان مما قال : “من أراد أن يسأل عن المواريث فليأت زيدا بن ثابت. ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذا بن جبل. ومن أراد السؤال عن المال (الشؤون المالية والاقتصادية) فليأتني”. وكان يقول عن علي بن أبي طالب “علي أقضانا”، علما بأن الفتيا كانت تختلف بين النطق بما نصت عليه الشريعة في أصولها من أحكام، وبين اجتهادات المفتين طبقا لروح الشريعة ووفق مقاصدها وعللها. ومثل ذلك القضاء الذي كان يعتمد من جهة على النصوص ومن جهة أخرى على الاجتهاد والرأي.

 

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي