الجمعة 27 سبتمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: الاجتهاد والمجتمع الإسلامي المعاصر (11)

الخميس 20 مايو 2021

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

الاجتهاد والمجتمع الإسلامي المعاصر

الحلقة (11)

1-مؤسسة الاجتهاد واستمرارها :

الاجتهاد مؤسسة إلهية إسلامية مستمرة إلى نهاية الدنيا، فرضها الله على القادرين عليها من عباده ليتيح بها إعمال الفكر البشري، لإغناء التشريعات والتنظيمات التي جاءت بها مصادر التشريع الإسلامي التي عُنيت بأصول الأحكام وبعض فروعها، ولمواجهة التطورات المستجدة في كل عصر ومكان، بالإجابة الشرعية عليها باستنباط أحكامها من مصادرها، حتى لا تبقى في التشريع الفقهي ثغرات، وحتى لا تُطرح على المجتمعات المتعاقبة عبر القرون تساؤلات تظل بدون جواب، أو مشاكل تضيق عن الحلول، ليبقى الإسلام بهذا الجهد الفكري المتواصل صالحا لكل زمان ومكان، مشرق الصورة، متصفا بالكمال الذي جاء التسليم به على لسان الحق في آخر ما نزل من القرآن في حجة الوداع : “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (سورة المائدة، الأية 3)، وحتى يبقى الدين ما بقي الدهر : “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (سورة الحجر، الآية 9).

إن صلاح الإسلام لكل زمان ومكان وقدرة علمائه على التواصل إلى معرفة أحكام المستجدات شرعا، لا تضمنها بعد ختم الرسالة وانتهاء الوحي إلا مؤسسة الاجتهاد التي هي مؤسسة تعبدية للمجتهد فيها أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ. وهي ضمن استخلاف الله لعبده الإنسان في الأرض ليقوم بالحفاظ عليها وإصلاحها وتطويرها، وتهذيب سلوك المخلوقات الموجودة فوقها، وتربيتهم على المنهج الإسلامي المرتكز على نمط سلوك وقيم يرضى الله عنها ويثيب عليها.

والله هو خالق الفكر الذي أودع فيه ملكة البحث والفهم والاستنتاج والاستنباط، فلا خالق لشئ ولا لأحد سواه : “هو الله الخالق البارئ المصور” (سورة الحشر، الآية 4). “أفمن يخلق كمن لا يخلق” (سورة النحل، الآية 17).

إن المجتهد إذا أصاب فقد قام بدور النيابة عن الله فيما استنبط من أحكام شرعية بهدي من الله وتوفيقه. “فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام” (سورة الأنعام، الآية 125) إيمانا واعتقادا واجتهادا واستنباطا، “ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا” (سورة الأنعام، الآية 125) كفرا وغواية وضلالا وتحجرا فكريا وتقليدا.

وقد دعا النبي عليه السلام لعبد الله بن عباس أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، فاستجاب الله دعاء نبيه وشرح الله صدر ابن عباس لتفسير القرآن والتفقه في الدين، وعلمه التأويل بالاجتهاد للتوصل لصائب الفهم.

وإن من أعظم ما يميز الإسلام عن سائر الأديان أنه جاء دين تحرير للبشرية، حررها من كل سلطة إلا سلطة الله، وأخضع الأرض لهذه السلطة العليا. فالله أكبر من كل سلطة، ولا سلطة فوق سلطانه. إليه تعنو الوجوه ويذل الأعزاء. وميز الله الإنسان عن سائر المخلوقات وكرمه فأودع فيه الفكر الثاقب والذهن النافذ، ليستعملهما فيما خلقهما الله له مطلقَيْن عن كل حجر وقيد، وإنما في حدود تعاليم الإسلام القيمة، وقيمه الخيرة المقدسة.

ولقد جاء الإسلام بتعاليم تسائل وتجيب، وقرنها بتقبل الفكر لها وإيمان القلب بها حتى وصل اجتهاد بعض العلماء إلى تكفير المقلد. كما حفل القرآن بتمجيد الفكر والعقل والاستنجاد بهما للتدليل على وجود الله والإيمان بانفراده بالخلق والأمر. كما فتح آفاق التفكير واسعة للنظر في ملكوت الله من أرض وسماء وفضاء بحثا عن الحقيقة واكتشافا للمجهول، واهتداءً إلى الأرشد والأنفع. ولم يحفل كتاب سماوي بمثل ما حفل به القرآن الكريم من حث على فك الفكر من عقاله، واستعماله وتنشيطه وحفزه على إثراء المعلومات الحسية والمعنوية، وإخصاب مشارب المعرفة والعلم وانطلاقه للاجتهاد الدؤوب البناء، لتستمر قيم الإسلام مدى الدهر صالحة غضة نقية.

وإن عَلم ونَظَر وبَصَر وعَقَل وفكر ومشتقاتها قد بلغت  في القرآن عددا هائلا من الأفعال والأسماء والنعوت مفردات وجمعا، ووردت جميعها في سياق الإشادة بالعقل والفكر وحسن البصيرة، ودقة التبصر في ملكوت السماوات والأرضين، وترويض ملكات الإنسان على الفهم والاستنباط والاستنتاج. ومن ذلك قوله تعالى : “قل سيروا في الأرض فانظروا” (سورة آل عمران، الآية 137)، وقوله تعالى : “كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون” (سورة يونس، الآية 24)، وقوله تعالى : “الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض”، (سورة آل عمران، الآية 91). وقوله تعالى : “وما يعقلها إلا العالمون” (سورة العنكبوت، الآية 43)، وقوله تعالى : “إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون” (سورة الرعد، الآية 4)، وقوله تعالى : “إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” (سورة الزخرف، الآية 3)، وقوله تعالى : “فاعتبروا يا أولي الأبصار” (سورة النور، الآية 44). وهذه الآية هي إحدى الآيات التي اعتبرها بعض مفسري القرآن إشارة إلى الأخذ بالاجتهاد، فالاعتبار هو قياس الأشياء على نظائرها. وهذه هي قاعدة الاجتهاد الأساسية. واستدلوا بها على تحريم قطع الاجتهاد وإيقاف مؤسسته عن العمل.

2-الرسول مؤسس الاجتهاد :

رغم الخلاف الذي ثار بين علماء الأصول والتشريع حول وقوع الاجتهاد من الرسول عليه السلام وعدمه، فإن الواقع يشهد بأنه قد اجتهد فيما لم ينزل به عليه وحي من القرآن، ولا أُلهم إياه بالسنة، وذلك لسن القدوة به للمسلمين للأخذ بالاجتهاد واستنباط الأحكام للفروع، وإرجاع الجزئيات إلى قواعدها الكلية. وهذا هو ما عليه جمهور العلماء.

إن مؤسسة الاجتهاد سن قواعدها الأولى الرسولُ نفسه، وكانت تواكب نزول الوحي وذلك بالنسبة للقضايا الفرعية الدنيوية، حتى يكون الإسلام مكتمل التشريع بالنسبة للدين والدنيا، أي أن مؤسسة الاجتهاد نشأت مع نشأة الدعوة.

وكان النبي يربي في مدرسة الاجتهاد الصحابة المحيطين به، وخاصة من كان من بينهم قادرا على إبداء الرأي. كان يستشيرهم في بعض المستجدات فيشيرون عليه. فالله أمره بطلب مشورة المؤمنين في قوله : “وشاورهم في الأمر” (سورة آل عمران، الآية 159) وكان يرجح بين آراء صحابته ويعتمد منها ما يظهر له أفضل وأنسب وأقرب إلى المنهج الإسلامي، أو ما يلبي حاجة المسلمين الظرفية.

ولا نحتاج إلى القول إن اجتهاد الرسول كان مقتصرا على شؤون دنيوية. فالوحي كان يغنيه عن الاجتهاد في أحكام الشرع التي جاء بها القرآن وأحصاها بعض العلماء وحصروها في خمسمائة آية، ورفعها بعضهم إلى ستعمائة أو تزيد. كما كانت السنة تغنيه عن الاجتهاد. وقد أوصل العلماء أحكامَ السنة الشرعيةَ إلى خمسة آلاف حديث.

والواقع أن الأحكام الشرعية في القرآن والسنة تتجاوز الأعداد التي أشرنا إليها. فهذا الإحصاء يصح بالنسبة للأحكام التي جاءت صريحة في نصوص الأحكام في القرآن والسنة، لكن مصدري التشريع هذين تضمنا أحكاما أخرى لم ترد بالمنطوق ولكن بمفهومها. وفي ذلك يقول نجم الدين الطوفي : “والصحيح أن هذا التقدير غير معتبر، وأن مقدار أدلة الأحكام غير منحصرة في ذلك. فإن أحكام الشرع كما تُستنبَط من الأوامر والنواهي تُستنبَط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها، فقلﱠ أن تجد في القرآن الكريم آية إلا ويُستنبَط منها شئ من الأحكام”.

وقد ثبت أن الرسول اجتهد أحيانا بدون مشورة وأحيانا أخرى بعد استشارة أصحابه. فقد شاور النبي أصحابه في مصير أسرى بدر، وأخذ برأي أبي بكر وغيره في فدائهم بالمال لحاجة المسلمين إليه، ولم يأخذ برأي عمر الذي أشار عليه بقتلهم. وقد عاتبه الله على الأخذ بالفداء في الآية التي نزلت للتصحيح القائلة : “ما كان لنبيئ أن يكون له أسرى حتى يُثْخن في الأرض. تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة” (سورة الأنفال، الآية 67).

واجتهد رسول الله (ص) فأخذ برأي سعد بن عبادة وسعد بن معاذ في بذل شطر ثمار المدينة. كما اجتهد فأخذ برأي أسيد بن حضير في النزول قرب الماء يوم بدر. واجتهد (عليه السلام) في تحريم العسل بعد أن تناوله عند إحدى نسائه، أو تحريم جاريته أم إبراهيم على الروايتين، أي أنه حرم ذلك على نفسه، لا أنه صيره حراما شرعا فنزلت الآية : “يا أيها النبيئ لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم” (سورة التحريم، الآية 1) ونبهته إلى الصواب في شكل عتاب كان يأتي من الله موجها إليه إذا ما أخطأ في التقدير، فالله لا يُقر نبيه على خطأ، مثلما عاتبه على إذنه للمنافقين الذين استأذنوه في التخلف عن غزوة تبوك في الآية : “عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) (سورة التوبة، الآية 43). كما ورد عتاب الله في إعراضه عن ابن أم مكتوم الأعمى وانصرافه عنه إلى الحديث إلى رجل من عظماء المشركين (أو إلى جماعة من كبارهم)، كان يعرض عليه (أو عليهم) الإسلام فأعطاهم الرسول الأسبقية فنزلت آية : “عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى (سورة عبس، الآية إلى قوله فأنت له تَصدﱠى”).

وفي ذلك يقول عمرو بن ميمون : “اثنان فعلهما رسول الله باجتهاده لم يؤمر فيهما بشئ : إذنه للمنافقين في التخلف، وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله في شأنهما”. لكن حالات العتاب تجاوزت الواقعتين المذكورتين كما رأينا.

وقد كاد ينعقد الإجماع على أن الرسول أذن له من الله في الاجتهاد في قضايا الحرب.

3-والرسول يشجع صحابته على الاجتهاد :

وقد سجلت السيرة النبوية وقائع حية عن تشجيع الرسول للصحابة على ممارسة الاجتهاد بحضوره وغيابه والتفويض لبعضهم فيه. وكل ذلك مشروط بما يقبل الاجتهاد مما لم يُنص عليه بالوحي في القرآن ولم يرد في السنة.

أثر عن الرسول أنه كان يقول لأبي بكر وعمر : “قولا فإني لم يوح إلى مثلكما”. وثبت عنه أنه أقر حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حتى لقد قال له: “لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات”. وهذا إقرار منه لاجتهاده، هذا الإقرار الذي تكرر منه في وقائع أخرى.

ومن ذلك إقراره لاجتهاد صحابيين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما وصليا. وبعد أن عثرا على الماء أعاد أحدهما صلاته، ولم يُعدها الآخر، فأقرهما الرسول معا على اجتهادهما، مخاطبا من أعاد منهما بقوله : “لك الأجر مرتين” ومن لم يُعد بقوله : “أصبت السنة وأجزأتك صلاتك”.

ومن بين إقرارات الرسول أصحابه على اجتهادهم قضية صلاة العصر في بني قريظة، حيث كان النبي خاطب أصحابه بقوله : “لا يصلين أحدكُم العصرَ إلا في بني قريظة”، فحمل بعضهم هذا النهي على حقيقته فلم يصلﱢ العصر إلا عند الوصول إلى بني قريظة، بينما حمله بعضهم على عدم التأخر بالصلاة فصلاها قبل الوصول، ولم ينكر (عليه السلام) على أيﱢ اجتهاده.

وكان النبي يفوض لبعض أصحابه الاجتهاد عند الضرورة كوجودهم بعيدين عنه. ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في حواره مع معاذ بن جبل عندما عينه قاضيا على اليمن وسأله : “بم تقضي يا معاذ؟” فقال معاذ : “بما في كتاب الله” فسأله النبي : “فإن لم تجد في كتاب الله؟” فقال معاذ : “أقضي بما قضى رسول الله”. فسأله النبي : “فإن لم تجد فيما قضى به رسول الله؟” فقال معاذ : “أجتهد برأيي ولا آلو”. فقال عليه السلام : “الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول الله”.

ولنلاحظ هنا أن معاذا استعمل تعبير “أجتهد” الذي يشير إلى مصدر الاجتهاد الذي أصبح مصطلحا للبحث عن استنباط الحكم الشرعي من أصوله.

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي