الجمعة 27 سبتمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: مجالات اتفاق المذاهب أغنى وأوسع من مجال اختلافها (9)

الثلاثاء 27 أبريل 2021

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

مجالات اتفاق المذاهب أغنى وأوسع من مجال اختلافها

الحلقة (9)

لم يعد في عهد الصحوة الإسلامية التي نعيشها من المذاهب إلا مذاهب فقهية لا خلاف بينها على العقيدة. وليس من بينها من ينكر القرآن أو السنة أو لا يقول بحجية السنة، وخاصة مذهبي السنة والشيعة الذَيْن أبرزت لقاءات التقريب بين المذاهب روابطهما المشتركة على صعيد التعلق بدين الإسلام، والغيرة عليه والتعاون لتقريب شقة الاختلاف في بعض الفروع التي اختلف العلماء المجتهدون في أحكامها.

وإنه لمما يوحي بأن هذا التقريب وشيك الوقوع أن رجال المذهبين منفتحان ومتعانقان على القيام بوثبة التقريب الكبرى. ولحسن الحظ فإنه لم يعد بين الشيعة لا سَبَئية ولا غُرابية، ولا بيانية ولا خطابية. كما لا يوجد بين أهل السنة اليوم “مكفراتيون” لمن لا يقول أو لا يعمل بمذهبهم، وأن الغلو الذي ساد أتباع الطرفين معا في حقبة تاريخية ولأسباب سياسية، قد طواه التاريخ وانتهى المسبب بنهاية السبب.

وحتى بالنسبة لتشيع الشيعة لأهل البيت النبوي واعتمادهم سيرتهم الطاهرة نموذجا مثاليا لسيرة المسلم، وتفضيلهم الأحاديث المروية عن أئمة الشيعة على غيرها، فإن التشيع لآل البيت بمعنى محبتهم والتعلق بهم وإحلالهم مكانة التشريف والتعظيم قدر مشترك بينهم وبين السنة في أساسه، وإن كان فيه اختلاف فهو من النوع الذي لا ضرر فيه.

إن كل سني يُنشد -إعرابا بلسانه عن حال وجدانه وقلبه- هذه الأبيات مع ناظمها :

يــا أهـــل بـــيـــت رســــــول الله حــــبــــكـــمُـــو
فــــرض من الله في الــــقـــرآن أنــــزلـــــــه
يـــكفيكـــم من عظـــيـــم الـــقدْر أنــكـــمُـــــــــو
مـــن لـم يُـصَـلﱢ علـــيكـــم لا صـــــلاة لــــــه

ومع القائل الآخر :

إن كـــــان رفــضـــــــا حــــــب آل مـــحــمـــد
فـــلْشهـــــــد الثقـــــــلان أنـي رافــضـــي

ونحن نؤمن بأن من أسباب الاختلاف ضعف اطلاع السنة على مذهب الشيعة واجتهادات أئمتها، وضعف اطلاع الشيعة على فقه السنة واجتهادات أئمتها. ولو انفتح كل سني أو شيعي بموضوعيه ونزاهة فكرية على الآخر لوجد أن ما يفرق بين مذهبيهما قليل. وفي الإمكان التوصل في أكثره إلى تراض ووفاق، ولردد في النهاية كل منها مقولة سقراط : “إذا عُرف موضع النزاع بطل كل نزاع”.

إن توالي حلقات الاجتهاد داخل كل مذهب من شأنه أن يثري الفقه ويصون الشريعة ويساعد على انتشار الإسلام الذي يؤشر كل شئ إلى أن مدﱠه قادم ليأخذ من جديد مكانته التاريخية. وبدون الاجتهاد سيتحجر الفكر المسلم، وسيُنسَب هذا التخلف إلى الإسلام، بينما الإسلام أطلق الفكر من عقاله ودعا إلى أن لا تقف رحى الاجتهاد والاستنباط.

إن المذهب الحنفي –مثلا- نادى بوجوب عدم خلو أي عصر من مجتهد، والمذهب المالكي رفض الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد. وامتنع الإمام مالك عن تلبية دعوة حمل الناس على الالتزام بكتابه والتقيد بمذهبه. والشيعة الإمامية والشيعة الزيدية ناهضتا إغلاق باب الاجتهاد وأوجبتا اجتهاد العلماء في كل عصر. وغنى عن البيان ذكر ما هو معروف من أن للمجتهد شروطا للممارسة لا بد أن تتوفر في عصرنا لمن يقتعدون كرسي الاجتهاد في المذاهب الإسلامية بمختلف فروعها.

بفضل هذا الاجتهاد ورثنا عن القرون الثلاثة من التاريخ الهجري ثروة فقهية ثرية تفتقت عن اجتهادات أئمة المذاهب الإسلامية التي كان لكل منها نصيب وإسهام فيها. واستمر ذلك إلى أن أخذ التقليد يدب إلى عالمنا الإسلامي بدءً من القرن الرابع الهجري، لينتهي نهاية مؤسفة بنداء إغلاق باب الاجتهاد في العصور المتأخرة.

ويحسن أن تتخذ لقاءات التقريب بين المذاهب شعار محمد رضا صاحب المنار القائل : “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”.

وأود أن أضيف إليه تكملة : “ونتضافر على تقريب شقة الاختلاف بيننا فيما يشكل فرقا بين مذاهبنا”.

وإذا ما ظهر لعلماء المذاهب وجود تيار شاذ يعمل لتكفير أي مذهب لمذهب آخر، فواجبهم نهي هذا المنكر وإلجام مرتكبيه بحبل السنة التي نهت عن ذلك وتوعدت صاحبه بالوعيد الصادق. فعن عبد الله بن عمر مرفوعا أن النبي الرسول محمدا عليه السلام قال : “إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد برئ بها أحدهما. فإن كان كما قال وإلا رجعت إليه”، وعن أبي ذر الغفاري أن الرسول قال : “من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع عليه”.

وقد قال علماؤنا إنه لا يُكفر إلا من أنكر حجية السنة ولم يعتبرها مصدرا للأحكام الشرعية بعد القرآن لا من أنكر حديثا أو أحاديث. وثبت في التاريخ أن أهل السنة لم يكفروا لا الخوارج ولا المعتزلة رغم إنكارهم لأحاديث وردت في صحاح كتب الحديث. والتقى جمهور علماء المسلمين على أن لا يُكفر أحد من أهل القبلة بذنب وأن أمره إلى الله.

4-توقي عواقب الخلاف بين المذاهب :

إن التمييز بين اختلافات المذاهب وخلافاتها وإقامة حدود فاصلة بين المفهومين على النحو الذي أومأنا إليه قبل، وتحديد معايير للتمييز بين الخلاف والاختلاف شأن لا ترقى العامة إلى مستواه، لا يتأتى إلا لمن أوتي مسكة من المعرفة والعلم. والعامة لا تفهم من وجود المذاهب إلا أن الإسلام مفترق على نفسه، وتتساءل أي إسلام هو أرشد لها وأهدى سبيلا.

ويزيد الأمر خطرا عندما يعمل كل مذهب على نشر مذهبه على أنه الدين الحق وما سواه الباطل، فيسود نوع من التنافر الذي قد يتحول إلى الكراهية والتطاحن. وقد وصل هذا التطاحن إلى حد القتال فيما سمي في تاريخ الإسلام بالفتنة الكبرى.

وفي ديانات أخرى –كالمسيحية- سجل القرن الحادي عشر الميلادي أول انقسام بين كنيسة غربي أوروبا وكنيسة شرقيها وغربي آسيا، وأصبحت الكنيسة في شرقي أوروبا وغربي آسيا تنعت بالأورثودكسية الشرقية، بينما أصبحت كنيسة غرب أوروبا تنعت بالكاثوليكية الغربية، وكان كل منهما يدعي أنه هو السائر على النهج الصحيح خصوصا الأوثودوكس.

وعرفت الكنيسة الغربية في القرن السادس عشر الميلادي انقساما إثر قيام حركة الإصلاح الديني الذي قادته الكنيسة البروستانتية. وأسست هذه الكنيسة طوائف دينية من بينها الإنجيلية والمعمدانية واللوثرية (نسبة إلى مارتن لوثر)، والميثوديست (المنهجية). ونشبت بظهور الكنيسة البروتستانتية عدة حروب بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، وأدى انقسام الكنيسة إلى اثنتين إلى انقسام أوروبا الغربية إلى شقين في نهاية القرن السادس عشر.

والانقسام والفرقة على الخلاف في الدين عرفته البشرية وأمثلثه شاهدة على ذلك في تاريخ الأمم. ولنقتصر على ضرب المثال على ذلك من تاريخ إيرلاندة الشمالية المعاصر التي تتكون من أغلبية بروتيستانتية وأقلية كاثوليكية. ومنذ أواخر الستينات تطور الخلاف بين المذهبين إلى صراع قومي دموي لم تحسم أمره الاتفاقات الموقتة التي أبرمت بينهما، وحتى تلك التي دعمتها الولايات المتحدة الأميريكية مساندة لجهود بريطانيا العظمى في هذا السبيل.

ومن أمثلة التاريخ الإسلامي المعاصر التطاحن الدامي الذي نسمع عنه في الباكستان بين الشيعة والسنة، وشاهدنا فظاعة أحداثه الدموية عبر القنوات التلفزية الفضائية. فقد شهدت كل من لاهور سنة 1997 وكراتشي سنة 1999 مشاهد مؤلمة تقاتل فيها الفريقان وحطما وأحرقا. وفي أحداث لاهور الدامية وقع الهجوم على مكتبة إقبال التي أحرقت وتُركت خراطيم النار تلتهم داخلها اثني عشر ألف كتاب كلها تراث إسلامي، من بينها مصاحف ومخطوطات نادرة. وقد سعى مجلس الوحدة الوطنية الباكستانية بين السنة والشيعة إلى التدخل بين الفريقين وأوقف جنونهما ولكن إلى متى؟

لذاك نرى أنه آن الأوان أن تعبأ الجهود في عالمنا للتفكير في موضوع توقي تطاحن المذاهب حتى لا تتكرر أحداثها أو تستفحل فيتسع الخرق على الراقع، فيحدث انشقاق في العالم الإسلامي لا قدر الله.

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي