الخميس 21 نوفمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: التقريب بين المذاهب الإسلامية (8)

الاثنين 26 أبريل 2021

ن بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

التقريب بين المذاهب الإسلامية

الحلقة (8)

1- التقريب ووحدة أمة الإسلام :

يبدأ التقريب بين المذاهب الإسلامية بجرد وإحصاء ما بينها من وفاق ينتظم عليه إجماع الأمة الإسلامية، وحصر ما بينها من خلافات فرعية، بهدف التدليل على أن ما يجمع بين المذاهب الإسلامية أكثر مما يفرق، واعتبار مجالات الاختلاف في الفروع شأنا غير ذي بال أو ثانويا. وكل ذلك يصب في معالجة المعادلة الكبرى : معادلة توحد العالم الإسلامي أمة واحدة ملتقية على كلمة سواء. وهذه المنهجية هي التي عُمل بها في اللقاءات والندوات التي عُقدت لمعالجة قضية التقريب، تلك اللقاءات التي نتجت عنها حصيلة فكرية أغنت مجال البحث النظري للقضية، بحيث يصح القول إن أسس الاستراتيجية المنظر لها أصبحت الآن ليست فقط واضحة، ولكن أخذت تُدرس بعناية علمية حصيفة النظرة، لكن المقترحات العملية لتجاوز التنظير إلى التطبيق هي ما نفتقده، وهي ما سنتناوله فيما يلي من خلال مقترحات.

إن كتاب الله وسنة رسوله اتفقا على أن الأمة الإسلامية تشكل وحدة متراصة صفا مرصوصا واحدا لا انخرام فيه ولا خلل ولا اعوجاج، لأنها موحدة بوحدة خالقها الذي لا تشرك معه أحدا، وموحدة في عبادتها لله الواحد. فالناس جميعا عباد الله وعُباده أو عابدوه، وموحدة في أداء الشعائر الدينية الواحدة، والتوجه إلى القبلة الواحدة، والعمل بدستور القرآن الواحد.

جاء في القرآن الكريم : “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” (سورة الأنبياء، الآية 92) وجاء فيه : “وإن هذه أمتكم واحدة وأنا ربكم فاتقون” (سورة المومنون، الأية 52). وأبرز هذه الوحدة في أنصع صورها الحديث الشريف القائل : “ترى المؤمنين في توادﱢهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر”.

وحضﱠ القرآن والسنة على وحدة صف الأمة وتجنب الفرقة. جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” (سورة آل عمران، الآية 103)، “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فَتَفَرﱠق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون” (سورة الأنعام، الآية 143). وجاء في السنة قول الرسول : “لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا”. كما جاء أيضا : “لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”.

وبمقتضى ذلك يبدو لأول وهلة أن توزع الأمة بين مذاهب مخالف للدين، خاصة ما جاء في سورة البقرة من النهي عن اتباع السبل المفرقة عن سبيل الله. إلا أن تعمق فهم هذه الآية يقودنا إلى أن الآية لا تعني إلا التفرق على السبل الضالة المضلة عن نهج الله، وليست مذاهبنا الإسلامية التي لا تختلف إلا في الاجتهاد الفرعي هي المعنية بالآية.

2-الخلاف والاختلاف :

إن السبل المنهي عن اتباعها هي سبل الخلاف لا سبل الاختلاف على التشريعات الفرعية التي لا يوجد لها نص قطعي. وهي المعروفة بالمذاهب (الاجتهادية).

وقد فرﱠق الله في الكتاب الكريم بين الخلاف والاختلاف، فندد بالأول واعتبر الثاني أمرا عاديا لا ضير فيه، بل هو سنة من سنن الله فقال سبحانه: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” (سورة هود، الآيتان 117-119). وقد اختلف المفسرون بين من قال إن الإشارة في قوله تعالى : “ولذلك خلقهم” إلى الرحمة، ومن قال إنها للاختلاف. ولو أخذنا بهذا التفسير الأخير فإن ذلك الاختلاف سنة الله التي يخلق الله البشر جبليا عليها لإثراء الرأي وتنويع الاجتهادات البشرية، ولاكتشاف الأفضل في الدنيا والأهدى في الآخرة. ولا كذلك الخلاف الذي يفرز الفرقة والتباغض والتطاحن وتبادل الاتهامات، ويسعى فيه كل طرف إلى اعتبار مذهبه النهج الوحيد الحق وما عداه الباطل، أو الخلاف الذي يخرج بصاحبه عن صف الأمة، فيفارق الجماعة وينكر دينها وشعائرها وقيمها. وحتى من حيث الصياغة العربية، فإن الخلاف (بصيغة فعال) يوحي بالصراع، ولا كذلك الاجتهاد (المذهبي) الذي يصل بصاحبه إلى اكتشاف حكم شرعي يأخذ به لنفسه، أو لمن يفتي له به، دون أن تدفعه النفس الأمارة إلى النيل من اجتهادات الغير بالطعن فيها، والتطاول عليها.

وقد فرق الله نفسهُ –تعليما لنا- بين مفهومي الاختلاف والخلاف على النحو الذي أشرنا إليه فجاء عن الاختلاف قوله تعالى : “إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيهما من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” (سورة البقرة، الآية 164).

وجاء الحديث عن اختلاف الليل والنهار في سورة آل عمران (سورة آل عمران، الآية 10)، (سورة يونس، الآية 6)، و(سورة المومنون، الآية 80)، التي تحدثت آيات فيها عن اختلاف الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان. وكل هذا الاختلاف يجري بين مخلوقات الله دون خلاف، أيْ صراع بينها. كما تردد هذا المعنى في القرآن الكريم بأفعال اختلف وتختلف ويختلفون واسمي مختلفون ومختلفين. ومن ذلك قوله تعالى : “وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله” (سورة الشورى، الآية 10)، وقوله : “فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه” (سورة البقرة، الآية 213).

أما بميزان المفاعلة أو الفعال فقد وردت آيات دالة على ترادف الخلاف وتماهيه مع التحدي والصراع في قوله تعالى : “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم” (سورة النور، الاية 63)، وفي قوله تعالى على لسان هود : “وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه” (سورة هود، الآية 88).

إن الخلاف بهذا المعنى هدر للقيم وتفريق لصفوف الأمة وانتهاك لتعاليم وحدتها المنصوص عليها في النصوص الشرعية قطعية الدلالة الثابتة التي أشرنا إليها. والاختلاف على فهم الدين ليس هو الخلاف في الدين، إذ لا ضرر في الاختلاف إذا كان اختلاف تنوع وتكامل، أما الخلاف فهو تضاد وفرقة وصراع وقتال. وهو الذي نهى عنه الرسول في الحديث القائل : “لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”.

الاختلاف في المنهج يثري الفكر ويهدي الوجدان وينير الضمير. والخلاف على الأهداف يفقر الفكر ويظلم القلب ويُضل النفس. وإننا لندعو إلى التمييز بين الخلاف والاَختلاف، باستعمال الأول في معنى الصراع والفرقة، والثاني بمعنى وجود رأي أو أكثر لا صراع فيها ولا عنف ولا عدوان. وهذا هو الذي ينطبق على مذاهبنا الإسلامية المتمثلة في اجتهادات فقهية لا اختلاف بينها فيما عداها، أي أن الاختلاف الموجود بينها اختلاف منهج لا غير. واستيعاب ذلك يُسَهل –لا محالة- مقاربة قضية التقريب لفهمها جيدا على أنها عملية ضرورية لإكمال وحدة المسلمين، ولاحتواء أزمة المذاهب إن وقعت.

عندما كنت أتابع في أبهاء جامعة القرويين بفاس بالمغرب دروس التعليم العالي لنيل الدكتوراه، كانت بين مواد التعليم مادة تحمل اسم الخلاف العالي بين المذاهب. وكان الكتاب المقرر لهذه الدراسة هو : “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رُشْد القرطبي. ولم تكن واردة حينذاك التفرقة بين الخلاف والاختلاف، لكني أرى أن التفريق بين المدلولين الذي أقترح استعماله واضح ولا غبار عليه.

ولقد أحسن المنظرون الأولون صنعا حين صاغوا اسم التقريب بين المذاهب لهذا العمل العلمي الديني الذي انطلق مع الصحوة الإسلامية، للنظر فيما يجمع بين المذاهب والعمل على تقريب شقة الاختلاف فيما تختلف فيه. فالتقريب ليس هو التوحيد ولا يعني مطلقا جمع الأمة على مذهب وحيد وتنحية ما سواه، فهذه معاكسة للقَدَر الذي أشارت إليه الفقرة القرآنية القائلة : “ولا يزالون مختلفين”.

ليس أشل للفكر من سيادة الفكر الوحيد، والحزب الوحيد، والطبقة الواحدة، والمذهب الوحيد. فتنميط الفكر طبق الأصل يتعارضان لا مع الطبيعة كما يقول العلمانيون، ولكن مع سنة الله وقدره كما يحسن أن يقال. وقد عانى العالم طيلة أزيد من قرن من التنميط الأُحادي على عهد الشيوعية التي تطايرت أشلاؤها دون أن تضرب لانهيارها موعدا. ونحن اليوم في عهد التعددية والتنافسية. “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” (سورة البقرة، الآية 251).

إن أئمة الاجتهاد الأولين تجنبوا أن يجمعوا المسلمين على مذهب وحيد، بل نددوا بذلك وعارضوه. وهذا ما فعله الإمام مالك بن أنس إمام أهل المدينة عندما بعث إليه الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور –بعدما اطلع على كتابه الموطأ-، يطلب منه أن يحمل الناس في القضاء والفتيا على ما جاء في كتابه، فامتنع عن تلبية رغبة الخليفة وأرسل إليه يقول : “إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، فحدﱠثوا فعند أهل كل مصرْ حديث علموه، وكل مصيب”. فقال المنصور مرتاحا لجواب الإمام مالك : “وفقك الله يا أبا عبد الله”.

وجاء في كتاب الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم الشاطبي الأندلسي “أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان يحبذ اختلاف الصحابة في الفروع لأنه لو كان لهم قول واحد لكان الناس في ضيق فهم أئمة يُقتدَى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم لكان سنة”.

وقد آمن أئمة الاجتهاد الأولون بأن الحقيقة الشرعية لا يملكها إمام مجتهد واحد. فكان أبو حنيفة يردد مقولته المشهورة عن اجتهاداته فيقول : “هذا أحسن ما وصلنا إليه فمن رأى خيرا فيه فلْيتبعه” وسُئل مرة : “أهذا الذي وصلتَ إليه هو الحق الذي لا شك فيه؟” فأجاب : “لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه”. وكان الشافعي يقول : “رأيُنا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا يحتمل الصواب”. وكان يوصي أصحابه وتلاميذه أن لا يأخذوا باجتهاده إذا كان مصدره القياس وإذا ما وجدوا حديثا يخالفه، ويقول : “أي أرض تُقلني وأي سماء تُظلني إذا جاء حديث رسول الله وخالفته”. ورُوي أن أبا حنيفة رأى تلميذه أبا يوسف يعقوب يكتب فتاويه فأنكر عليه ذلك وقال : “ويحك إني قد أرى رأيا اليوم وأخالفه غدا، وقد أرى الرأي غدا وأخالفه بعد الغد”. وهو ما نصح به مالك في تدوين فتاواه.

وكان هؤلاء الأئمة يفعلون ذلك تحريا منهم وبذلا للمزيد من البحث لاكتشاف الحقيقة، وخشية من الله أن يدﱠعوا امتلاكها فضلا عن ادعاء الانفراد بعملها : “إنما يخشى الله من عباده العلماء” (سورة فاطر، الآية 28)، والله وحده الحق. “ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدْعُون من دونه الباطل” (سورة الحج، الآية 62)، “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” (سورة الإسراء، الآية 85). والله هو مصدر العلم : “وعلمناه من لَدُنا علما” (سورة الكهف، الآية 65)، فهو يوحي بالعلم إلى رسله ويلهمه أنبياءه ويرشد إليه الباحثين فيه من عباده، “وفوق كل ذي علم عليم” (سورة يوسف، الآية 76).

وهذا الموضوع موضوع امتلاك الحقيقة والعلم عالجه من نظرة موازية أفلاطون الذي كان يردد : “إن الحق لم يصبه الناس في جميع وجوهه ولا أخطاؤه في جميع وجوهه، وإنما أصاب كل الناس في اعتماد وجه منه”.

وقد تحدثت كتب البحث في المذاهب التي رصدت ظهور المذاهب وأرﱣختها عن أسباب اختلاف الاجتهادات بينها، فذكرت من بينها مرور المسلمين بظروف تاريخية فرقت بينهم وطُويت لحسن الحظ صفحتُها. ومن بينها ما يرجع إلى اختلاف الطبائع البشرية في الفهم والتأويل. وانتهى الشيخ أبو زهرة إلى القول : “إن اختلاف علمائنا كله خير وبركة، لأن اختلافهم ليس على العقيدة ولا على قواعد الإسلام وأركان الإيمان، وإنما على مجموعة اجتهادات بشرية في الفروع التي لم يثبت بشأنها حكم شرعي بدليل قطعي. والاجتهاد بهذا الشكل فيه ثواب. دليل ذلك قوله عليه السلام : “إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر”.

وتعجبني كلمة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي الذي قال : “المصيب في المسائل الاجتهادية مأجور، والمخطئ فيها معذور، وخطؤه فيها مغفور، بل هو بنص الحديث مأجور”.

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي