عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: نظام الشورى وشكل الحكم (7) | ||
| ||
من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها. وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري. نظام الشورى وشكل الحكم الحلقة (7) لضبط مقتضيات رعاية المسؤولية أقام الإسلام نظام الحكم على “الشوري” التي تشرك الرعية في التقرير والتنفيذ. ولم يحدد الإسلام للشورى نظاما معينا لكون رسالته عالية مدعوة للتطبيق في كل زمان ومكان. فالإسلام يقتصر في تشريعاته وتنظيماته على توضيح المبادئ وتعيين الأصول ويترك تفاصيل تطبيقاتها لظروف كل مجتمع وعصر. وهو لا يقر للحكم شكلا معينا جمهوريا أو ملكيا أو أميريا، فالعبرة في الإسلام بالمحتوى والمضمون. إن الحاكم الإسلامي مسؤول مرتين : مسؤول أمام ربه في جميع ما يأتي وما يذر. وتلك هي الرقابة الباطنية. وهو مسؤول أمام الأمة وملزم باستشارتها وتلك هي الرقابة الشعبية. ولا تعني الاستشارة الاقتصار على تسجيل الآراء دون العمل بها، ولا حرية التصرف الكاملة في انتقاء ما يراه الحاكم صالحا ومفيدا منها، بل هناك معايير موضوعية للترجيح. إن عملية الشورى عملية مشاركة للمستشارين في تهيئ عناصر القرار لتترتب على ذلك متابعة التنفيذ بجانب الحاكم. وكل رأي أوخطة أجمع عليهما أهل الشورى يصبحان رأي الأمة وخطتها. وعلى الحاكم أن يسهر على تنفيذهما. وإن وقع الخلاف بينه وبين هيأة الشورى احتكم الطرفان إلى مقاييس الشرع الذي هو أسمى سلطة. “فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول” (قرآن كريم). ومن رعاية حقوق الأمة تدعيم وترسيخ نظام الشورى، فلا يجوز للحاكم تعطيله أو تحريف محتواه عما قُصد منه من توفير جو الحوار المثمر بين طرفي الحكم ومساهمة الرعية في التقرير، وتمكينها من تنفيذ المقررات عن طواعية ورضى. إن رعاية حقي الاختيار والشورى في صالح الحكم نفسه. فمهما رعاهما الحاكم حصن حكمه ضد وقوعه في المتاهات، وشعبَه ضد الانزلاق في المغامرات، وجنب المجتمع التردي في الهزات التي تنتج عن أزمة الثقة. 1- الإسلام ومبدأ فصل السلط : يؤكد القانون الدستوري على مبدأ فصل السلط بوصفه عاصما من استبداد السلطة. ولذلك تتعدد السلط في الأنظمة السياسية الديمقراطية المعاصرة، ومعها تتعدد المؤسسات الممارسة لجزء من السلط حتى لا تجتمع في يد واحدة، عملا بمبدأ مونتيسكو : “السلطة تحدﱡ السلطة”. ويختلف فصل السلط بين نظام وآخر، بحيث يقوي في بعض الأنظمة ويضعف في أخرى. فإذا كان تطبيقه في النظام الرئاسي يجري بحدة ولكن بدون قطيعة، فإنه يطبق في النظام البرلماني في شكل تعاون متوازن. بيد أن الاتجاه المعاصر اليوم هو رجحان سلطة التنفيذ على سلطة التشريع، لتضمن الحكومة لنفسها وسائل عملها. وفي ذلك تغيير جوهري لمفهوم فصل السلط القديم الذي كانت ترجح فيه سلطة التشريع، حتى سمي عهده عهد السيادة البرلمانية. أما الإسلام فله مفهوم متميز في توزيع السلط، إذ السلطة الأولى فيه يمارسها الخليفة بعد البيعة التي تخوله رئاسة عامة المسلمين لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، إلا أنه لا يملك إلا جزءا من السلطة التشريعية، أي في الأحكام الفرعية التي لم يرد فيها نص من الكتاب والسنة، باستشارة مع المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام التفصيلية من منابع التشريع. فالتشريع في الإسلام لا يختص به منتخبو الأمة أعضاء المجلس (برلمان أو مجلس نواب) كما هو الشأن في التنظيم السياسي الحديث، بل يختص فيه أهل العلم، لذلك تسمى الحكومة الإسلامية حكومة العلماء، فالخبراء في فن الحكم هم أهل الحل والعقد في الإسلام. إن الإسلام لا يفصل بين السلط، ولكن يحدد فقط مجالات وظيفة السلطة. وربما كان اهتمام الفقه الدستوري بفصل السلط كان راجعا إلى أن سلطة التشريع سلطة رهيبة لا يجوز أن تضاف إليها سلطة أخرى قد تجعل من هيأة التشريع هيأة طاغية، بينما معظم التشريع الإسلامي ليس في يد الحاكمين بل هو مدون في القرآن والسنة. وفي عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم تكن هناك سلطات بل سلطة واحدة. وعندما مات الرسول حدثت انحرافات وظهر مصدر آخر للتشريع هو الرأي، يختص به الذين وصلوا إلى امتلاك قدرة الاجتهاد. ولما تطور المجتمع الإسلامي تطورت السلطة الحاكمة إلى ولايات متعددة، منها ولاية سنﹼ القوانين، وولاية القضاء، وولاية التنفيذ. وتختص كل ولاية بمصالح تابعة لها وفق الشروط المعمول بها. ولا شئ يتنافى في الإسلام مع تنظير عصري يقوم على اختيار هيأة لممارسة السلطة التشريعية بشرط أن تضم من تتوفر فيهم صفات الاجتهاد من المتخصصين في جميع مرافق التشريع، وخاصة العارفين بأسرار التشريع الإسلامي ودقائق أغراضه. 2- الدولة في الإسلام : مصطلح الدولة : الدولة في مصطلح العصر الحاضر هي الكيان المعنوي المناط به اختصاصات الحكم، فهي التي تملك السلطة العمومية، وهي المهيمنة على مراقبة الذين يمارسون الحكم، ولها مقومات أساسية لابد من توفرها لتكون دولة. والدولة بالمعنى الاصطلاحي هي أسمى مؤسسة للحكم الذي هو ظاهرة لا يمكن أن يستغني أي مجتمع عنها. لأن المجتمع البشري مدني بطبعه محكوم بنظام ذي سلطة يجب الامتثال لها، وإلا انفلت العقد الاجتماعي وتناثرت حباته وضاعت على الناس مصالحهم التي هي جزء من حياتهم. والقيام على شؤون الناس يستوجب وجود سلطة تسهر على تطبيق النظام، وحكومة موكول إليها تصريف أمور الدولة هي الجهاز التنفيذي لمزاولة السلطة. إن وجود الدولة يعني وجود أمة تخضع لسلطة عليا ذات نظام سياسي واجتماعي واقتصادي تعمل الدولة في نطاقه، وتخضع له جميع المؤسسات الحاكمة والمحكومة، ويمتد على رقعة جغرافية محدودة بحكم القانون. ولذلك يذكر علماء القانون والاجتماع أن المقومات السوسيولوجية للدولة ثلاث : إقليم (أو تراب)، وسكان، ونظام. ويعتبرون الدولة المؤسسة الأسمى التي تهيمن على سائر المؤسسات، لأنها كيان معنوي يسمو على سلطات الحاكمين الذين يتغيرون، بينما تبقى هي ثابتة لا تتحول ولا تزول. 3- الدولة الإسلامية : يضم إقليم الدولة الإسلامية كل جماعة متعايشة داخل حدود آمنة، يرتبط الإقليم الإسلامي معها ارتباط السلام وتبادل المصالح. على أن الأمة الإسلامية تجمع هذه الأقاليم إذا كانت معتنقة لدين الإسلام لتكوﱢن جماعة واحدة يؤلف الإسلام بين فصائلها بوحدة العقيدة والتشريع، والتنظيم الاجتماعي، والتوجيه الثقافي، وكل ما يستدعي تأليف هذه الفصائل من محبة وتسامح، وتآزر وألفة واحترام المتساكنين كيفما كانت نحلهم. فالإسلام هو الأمة الإسلامية التي لا تكره أحدا على اعتناق دينها، ولا تلزمه بتشريعاتها. والقوميات مهما اختلفت لغاتها وعوائدها تتكافل مع المسلمين وتتكامل في النظام الإسلامي. والإسلام يعتبر الإقليم مكانا لإقامة أمة إسلامية وليس كالمسيحية التي تخول لأتباعها ملكية الأرض بأمر من البابا الوريث الإلهي للأرض، فيجيز للنصرانية امتلاك كل أرض خارج نطاق أوروبا النصرانية. أما في الإسلام فــ “إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين” والشرط الأساسي لملكيتها هو تعميرها. “والأرض يرثها عبادي الصالحون” “إن يشأ يُذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء”. والشعب المقيم بالأرض لا يعني في الإسلام الكتلة البشرية المتميزة جغرافيا وهُوية أو لونيا أو اقتصاديا، فالبناء السياسي في الإسلام يقوم على الأمة. وهي الجماعة المترابطة بينها برباط الدين الذي يجعل الأمة متساوية في تلقي الأوامر واجتناب النواهي، والاستمتاع بالعدالة والمساواة لا فرق بين الرجل والمرأة، والشيخ والصبي، والأبيض والأسود، والعربي والعجمي. غير أنه –عبر تحليل التاريخ الإسلامي- لا يمكن تجاهل أثر التقاليد الساسانية في المشرق، والبيزنطية في المغرب التي جعلت نظام الحكم الإسلامي يخضع لمؤثرات جديدة تتصف أحيانا بالاستبداد، لإقرار الأمن الذي هو أساس تطبيق الشريعة، مما جعل بعض علماء النظم الإسلامية يعتبر الخليفة فوق القانون، ومما جعل أبا يوسف (قاضي بغداد) والرجل الثاني في الفقه الحنفي، يحتج ضمنيا على تطويع المبادئ الإسلامية السامية للمفاهيم الساسانية، ويقول بصراحة إن أسس الحكومة الإسلامية هي الأسس التي وضعها الخلفاء الراشدون مسترشدين بالقرآن والسنة والإجماع. وبتتابع الأحداث السياسية واتساع الرقعة الإسلامية نما الحكم الاستبدادي، مما جعل ابن تيمية يجعل السلطان هو الساهر على تنفيذ أحكام الشريعة ويؤكد له سلطة واسعة، بل هو ظل الله في الأرض، وهي نظرية مقتبسة عن نظرية الحق الإلهي الساسانية. ولم يلبث أن تحول الحق الإلهي إلى الاستبداد العادل، ثم بعد ذلك إلى الاستبداد المطلق. ورغم أن الخليفة يخضع لأوامر الشريعة، فإن علماء الإسلام لم يعودوا يجدون وسيلة لمحاسبته غير الوعظ العنيف حينا والرفيق أحيانا، حتى لا يكاد يخلو عصر من كتاب يؤلفون للخلفاء والملوك المواعظ الدينية والأدبية، مما كان يعرف نظيره في السياسة الغربية بــ “مرايا الأمراء” « Miroirs des Princes ». 4- علاقة الدولة بالأمة : الأمة في مفهومها الإسلامي أوسع دلالة من الدولة، فالأمة الواحدة هي هدف الرسالة الإسلامية التي جاءت منذ نشأتها لتعيد للبشرية انطلاقتها الأولى “كان الناس أمة واحدة”. ولهذا فالأمة المحمدية هادفة لتوحيد الناس على عقيدة التوحيد التي تحرر الإنسان من العبودية والخوف والجهل. إنها رسالة عالمية. والأمة الإسلامية أساسها (العقيدة الواحدة) فلا شريك مع الخالق ولا مشرع غيره، وليس من حق أي إنسان أن يشرع للناس أو أن يتعالى سلطويا أو سياسيا أو علميا أو اقتصاديا على غيره. والتاريخ الإسلامي شاهد على أن الأمة الإسلامية استوعبت أجناسا وأمما وقوميات وطوائف مختلفة الأعراف والعادات واللغات والألوان فلم تضق بذلك، ولم تضق تلك الطوائف بذلك أيضا، فكانت أمة واحدة، خضعت جميعا لخليفة واحد حينا، وتعددت فيها الخلافات أحيانا، وكان بها الخلفاء والأمراء، ولكنها ظلت أمة إسلامية واحدة. وقد جمع الإسلام بين السياسة والسلطة والأخلاق، فطوع علم السياسة والحكم للمبادئ الدينية، والقيم الأخلاقية في محاولة لجعل السياسة مثالية، وجعل رسالتها هادفة للسمو بالإنسان وتحقيق الفضائل العليا وتقوى السلوك، وصدق الأعمال والإخلاص في النيات. استنتاجات عامة : لقد كان الرسول عليه السلام نبيا مرسلا يتلقى الوحي ليلقنه الناس كافة ويسهر على تنفيذه وعدم الإخلال به. وبذلك كان مشرعا وحاكما يدير شؤون الدولة، ويوضح بسنته القولية والفعلية والتقريرية ما جاء من أحكام في القرآن الكريم. وهي تشريعات تنظم سلوك الفرد والجماعة، وتوضح العلاقات وطرائق الحكم. فكان الإسلام بذلك نظاما سياسيا واجتماعيا وثقافيا اعتمد في تشريعاته أصولا ثابتة، وهي إقرار الكرامة البشرية والعدل والمساواة والشورى، حتى ينفى الظلم والفوارق والاستبداد، ووضع أمر تسيير الدولة بيد الخليفة الذي يتولى الحكم ويمثل السلطة التنفيذية، ثم يفوضها إلى من ينوب عنه مستمدا قوته التشريعية من القرآن واجتهاداته من أولي الأمر، وهم أصحاب السلطة الحقيقية التي تستقي أحكامها من ينابيع الأصول الإسلامية. كما قرر الإسلام بوضوح في نصوصه التشريعية الأصولية علاقة السلطات بعضها ببعض، والروابط التي تجمع بين الأفراد وتنظم الصلات مع السلطات. وأناط ذلك كله بحفظ المقاصد التي جاء الشارع لصيانتها وهي حقوق الله والعباد. كما شرع الإسلام الوسائل لتنفيذ الشريعة على يد هيئات في المجتمع، منها ما يختص بتنفيذ شريعة الله وتطبيقها، ومنها ما يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يحقق ما جاء في القرآن “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون”. وبهذا فالإسلام وزع السلطة، وأسند الحاكمين بقاعدة يسودها العدل، وهدى إلى التسامح، كما أقام الحدود واحترم العقود ووفى بالعهود. وهو ما يعبر عنه علماء الأصول (بالمصلحة) الموكلة حراستها إلى الدولة. وبذلك يكون الإسلام نظاما شاملا ضابطا لعلاقات الإنسانية بربها وخالقها، ولمعتنقيه بعضهم ببعض داخل الأمة الواحدة، وللمتساكنين معهم في دار الإسلام بما يرعى حقوقهم كاملة مقابل التزامات عليهم أداؤها. كما أقام الإسلام للعلاقات الدولية ضوابط وأحكاما، وبنى سياسته على قواعد مسلمة ثابتة تناهض القومية الضيقة، والعنصرية البدائية، والتطرف الديني المخل بالتسامح والتعايش، مسويا بين الناس، ومحطما الطبقية والاستعلاء في الدنيا، تاركا لله وحده تفضيل صنف من عباده على آخر “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (قرآن كريم).
| ||
عبد الهادي بوطالب بين السياسة والديبلوماسية الأربعاء 24 أبريل 2024 |
في الذكرى 14 لوفاة الأستاذ الكبير عبد الهادي بوطالب الجمعة 15 ديسمبر 2023 |
رواية الأستاذ عبد الهادي بوطالب "وزير غرناطة" في ندوة علمية بفاس (الأربعاء 17 ماي 2023) الأربعاء 24 مايو 2023 |
قراءة في مذكرات الأستاذ عبد الهادي بوطالب (ندوة فكرية)بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاته. (السبت 14 دجنبر 2019) الثلاثاء 14 مارس 2023 |
حرب القلم من أجل الاستقلال والديمقراطية في المغرب الاثنين 27 فبراير 2023 |