الخميس 21 نوفمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: مفهوم الحكم والسلطة (6)

الثلاثاء 27 أبريل 2021

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

مفهوم الحكم والسلطة في الاسلام

الحلقة (6)

تفيد كلمة الحكم في اللغة العربية ما يجمع بين الأمر والاعتدال والإتقان، فالحكم ليس سلطة مطلقة وأمرا مستعليا، بل هو أمر عادل متقن هادف لإقرار الحق في توازن. ويقتضي وجود الحكم حكاما حكماء يحكمون في القضايا ويُحكمون أي يتقنون أعمالهم. وهذه اللفظة (الحكم) يُراعى في اصطلاحها الفقهي الاعتماد على أصول تشريعية في إصدار الأحكام المبنية على الحق والعدل، ولا يكون ذلك إلا بواسطة حاكم مدرك لكل ذلك، له من الصفات ما يمكنه من أداء عمله، كما له من المؤسسات والأجهزة ما يستطيع به تحقيق عمله كذلك. ولهذه الأجهزة تنظيمات وإجراءات تساعد على تنفيذ الجكم.

فالسلطة الآمرة الحاكمة التي تعهد إليها الجماعة الإسلامية بتسيير شؤون المجتمع لا يقام حكمها إلا في ظل الاستقامة والعدل، فعليها أن تمارس وظيفتها بالنيابة عن الأمة دون شطط ولا استعلاء، ومن غير ضعف أو تهاون، بل عليها أن تتقن عملها بأهليتها المستمرة للحكم، وإلا فقدت مصداقيتها وأهليتها لتحمل الأمانة.

إن الإسلام يوضح بجلاء مفهوم الحكم وطريقة إقامته على أسس واضحة لا يقبل لها بديلا. فلابد من توفر العدالة، وإرادة إحقاق الحق، وبذل الجهد في إظهاره وإعلانه، وإلا لم يكن الحكم إسلاميا. وضرورة وجود الحكم متوقفة على ضرورة تحقيق مفهومه. فالمجتمع لا يصلح بدون حكم، ولكن الحكم ليس غاية لذاته، وإنما هو لتحقيق هدف إصلاح المجتمع البشري وحفظ حقوقه، ولذلك فالحاكم مسؤول أمام الرعية التي تملك مراقبته وحتى وضع حد لسلطته.

  • هدف الحكم :

هدف الحكم في الإسلام إذن هو (العدل) الذي يوفره المجتمع الإسلامي لنفسه وللناس كافة. ولتحقيق هذا الهدف يجب العمل على إقامة مجتمع إسلامي يرتكز على العقيدة الصحيحة التي جمع الله الناس عليها. وليس من هدف للحكم إلا صيانة هذه العقيدة وما جاءت به من تعاليم ومبادئ وقيم لخير الإنسان.

 ولقد صور الإسلام المجتمع الإسلامي تصويرا واضحا لا لبس فيه. وهو المجتمع الذي يقام على العدل والمساواة في حدود تشريعات الإسلام وفي إطار تنظيماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجعل منه مجتمعا متوازنا منسجما يؤلف وحدة بدون طبقات، يحصن فيه الضعيف من عدوان القوي، ويكون فيه للمحكوم والقاصر عن كفالة عيشه حق معلوم في مال الغني، ويسوﱠى فيه بين الرجال والنساء في المسؤوليات وفي الحقوق والواجبات، ويتحرر فيه الفرد والجماعة. أي أن هدف الحكم القائم خلق مجتمع متحرر يؤمن بالله كسلطة عليا لا نفوذ للبشر فوق نفوذها، كما يؤمن بحرية وكرامة الإنسان ويعمل لدعمهما وترسيخ جذورهما في أفراده وجماعاته.

  • طرفا الحكم :

وإذا كان للحكم في مفهومه الغربي طرفان : حاكم ومحكوم، وإذا كان القانون الدستوري المعاصر يفرض وجود طرفين غير متكافئين في مسؤولية إقرار الحق، أحدهما آمر، والآخر مأمور، أحدهما بيده السلطة، والآخر موجه بواسطتها، وإذا كان هذا القانون لم ينشأ إلا على أساس البحث عن الحدود الوضعية التي تقوم حاجزا بين الحرية والمسؤولية في محاولة للتوفيق بين مقتضياتهما، فإن الحكم في الإسلام يعتمد على مجتمع واع برسالة القرآن المضبوطة بالوحي، ومتأثر بروح الإسلام. يتقاسم فيه الحاكم والمحكوم السلطة. ولهذا، فالدين لا يقيم بين الحاكم والمحكوم حواجز فاصلة، بل يقر المساواة بينهما مع اختلاف وظيفة كل واحد منهما اختلافا يحقق التكامل بينهما.

إن الإسلام لا يلقي على كاهل السلطة الحاكمة وحدها مسؤولية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –وبها يتحقق الأمن الداخلي- ولا يُؤْثر السلطةَ الحاكمة بمسؤولية الدفاع عن الكيان ضد التهديد الخارجي، وإنما يعتبر ذلك وظيفة مشتركة بين طرفي الحكم، ومسؤولية مفروضة عليهما بالتساوي. ومعيار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطلق من تقيد المجتمع بجميع فصائله بتعاليم الشرع لتوفير الصالح العام، سواء في ذلك الحاكمون أو المحكومون.

إن هذا الاشتراك في المسؤولية يقتضي الإشراك في السلطة. وبمعنى آخر إن الفرد كالجماعة لا يعتبر في نظر الإسلام غير مسؤول، بل هو عون للسلطة للسلطة القائمة إن لم نقل –وبدون تجاوز- إنه رجل سلطة مكلف بنوع من الحكم ما دام مطالبا بالدعوة للخير المتعارف عليه في الدين والمجتمع (معروف)، ومكلفا بتغيير كل وضع أو مخالفة لا يقرهما الدين والمجتمع (مُنكَر) لا عن طريق استنكار الفرد والجماعة قلبيا ووجدانيا ولكن عن طريق التغيير باليد واللسان، أي بالمساهمة الفعلية بجانب السلطة الحاكمة في تغيير الوضع وتقويم الانحراف. فالمواطنة الإسلامية لا يتحملها المواطن بالوراثة أو بالميلاد في الوطن، بل باختياره للعقيدة بما يتطلبه هذا الاختيار من مساهمة بجانب الحاكمين في إصلاح المجتمع والدفاع عنه.

وليس على الطرف الحاكم غضاضة في تقاسم المسؤولية مع الطرف المحكوم. لأن الطرف الثاني لا يمارس إلا مسؤوليته في إطار المساعدة التي وكل إليه المجتمع أمرها، دون أن تقترن هذه المساعدة بتطاول على مقام الحاكم، إذ إشراك المحكوم في المسؤولية لا يتنافى مع ما يجب أن يتمتع به الحاكم من حرمة واعتبار، ما دام عمل المواطن إنما هو مساهمة في تسهيل عمل الحاكمين ومأموريتهم.

وقد ضبط الإسلام علاقة الحاكم بالمحكوم بدءا من المرحلة الأولى التي هي تعيين الحاكم، حيث تستمد هذه العلاقات قوتها من قاعدة اختيار الحاكم من طرف الأمة، لتظل العلاقة مستمرة بينهما ويبقى المحكومون هم الذين يمارسون السلطة التأسيسية للحكم. ولا يُنهي الاتفاق على تعيين الخليفة أو الحاكم في مركز السلطة هذه العلاقة، بل تظل ممتدة على شكل تعاون الطرفين كل في دائرة اختصاصه، ما حدد له من حقوق وواجبات كما سنرى.

إن الإسلام إذن يعتبر الحكم أمانة ملقاة على الطرف المتولي –برضى المحكوم- لرعايتها، ولكنه لا يعفي المحكوم من المساهمة مع الحاكم في رعايتها مع تقاسم المسؤولية بينهما فكل مسؤول عن رعيته.

  • تعاون طرفي الحكم :

إن هدف الحكم الإسلامي سالف الذكر لا يمكن تحقيقه إلا بتنظيمات وإجراءات، حيث تلتقي فيه إرادة الحاكمين والمحكومين فرادى وجماعات، وتتضافر حول تحقيقه الإرادات المشتركة الموجهة بالخطاب القرآني والسنة النبوية، المعتمدة على مراقبة ومحاسبة ذاتية مستمرة للضمير، سواء لدى الحاكم أو المحكوم، فكلاهما حارس وحريص، حارس لنفسه ومجتمعه، وحريص على تحقيق عدالة الله في الأرض حتى لا يكون الحاكم في حاجة دائمة إلى سلطة رادعة لا يُلْجأ إليها إلا بالنسبة للبعض ممن لا يتقيدون باتباع أوامر الله ومراقبته في السر والعلن.

ولهذا فالسلطة في الإسلام روحية أكثر منها مادية. وكما لا إكراه في الدين، فإن الحكم المنبثق عن الدين لا يعتمد القسر والإكراه في دعم سلطته إلا في حالات الشذوذ التي لا يخلو أي مجتمع منها، والتي تقل وتتضاءل في المجتمع النظيف السليم.

ولا يسجل تاريخ الدولة الإسلامية في عهد محمد عليه السلام –وقد استمر ربع قرن- أن الحاكم لجأ إلى القوة المادية لقمع فتنة أو اضطراب أو صد محاولة انقلاب أو تغيير للأوضاع، بل إن إقامة الحدود على المنحرفين إنما تمت في حالات استثنائية لم تتكرر إلا نادرا. وكانت لا تقام إلا بثبوت فعلها والتيقن من ارتكابها وتُدرؤ بالشبهات والشك في حدوثها.

فالوقاية الذاتية هي سلطة الحكم الإسلامي الضاربة جذورها في أعماق المجتمع، وهي سر انسجام المجتمع الإسلامي.

 مفهوم الراعي والرﱠعية :

إن الإسلام يعتبر الحكم أمانة وتكليفا، فالخليفة أو الحاكم أو الراعي أو الإمام يحكم الأمانة بالنيابة عنها لتنفيذ أحكام الكتاب والسنة وبالاجتهاد. ولهذا فالإسلام يعتبر الحكم مجرد أمانة معهود إلى الحاكم برعايتها. ولذلك أطلقَ على الحاكم وصف الراعي. والمجموعة البشرية نفسها مطوقة إلى حد ما برعاية مؤسسة الحكم بما فرض عليها الإسلام من واجبات لا يعفيها منها اختيار الحاكم. أما المحكومون فيسموْن بالرﱠعية. وهو التعبير الإسلامي المقابل للفظ الراعي الذي يطلق على الحاكم. والرعية فعيل بمعنى مفعول، فالأمة مَرْعية من حكامها وهذا حق ثابت من حقوقها عليهم لأنه هو الهدف من توليهم الحكم.

وهذا المعنى الذي يشير إلى هذا التكريم ويؤكد حق الرعاية لا يفيده التعبير بالمحكومين الذي يستعمله الفقه الدستوري الحديث، كما لا تتضمنه لا كلمة المواطنين ولا لفظ الشعب.

فمجرد التعبير عن شقي الحاكم بالراعي والرعية يفيد أن العلاقة بشرية قائمة على وعي الحاكمين بدور رعاية الأمة، في حين أن لفظ المحكومين يبرز علاقة الأمر والنهي والطاعة والامتثال وحتى علاقات الردع والزجر، وعلى كل حال علاقة غير متكافئة.

  • اختيار الحاكم :

ليحقق الإسلام تراضيا وتآزرا بين الحاكم والمحكوم عمد إلى إقرار مبدأ اختيار الحاكم من لدن المحكوم بشروط معروفة تتلخص في توفر الكفاءة والأهلية والنزاهة والثقة. وهذا الاختيار الحر يقيم جو التعاون بين الطرفين على تحمل المسؤولية المشتركة. ومقابلُه فرض الإسلام على الرعية طاعة الدولة في الحدود التي رسمها لهذه الطاعة.

وهو تدبير منطقي، إذ لم يُختر ليُعصى أو يُتمرﱠد عليه، أو ليتحلل المحكوم من مسؤولياته نحوه لأتفه الأسباب فتعم الفوضى ويختل الأمن.

وجريا على النهج الإسلامي العام، فإن الإسلام لم يرسم لهذا الاختيار نموذجا معينا ولم يضع له طريقة محدودة، فكل ما يجعل من الحاكم سلطة شرعية مقبولة بإرادة المحكوم مقبول.

وفد أعطى النظام الإسلامي للأمة حقوقا اصبحت بالمزاولة حقوقا مكتسبة لا تقبل التفويت عندما أقام الحكم على قاعدة اختيار الأمة له، فالحاكم مطالب برعاية هذا الحق والحرص على تطبيقه عند تسلمه الحكم وعند تخليه عنه إلى غيره.

ويقوم المسؤول الأول عن الحكم بوظيفة التنفيذ لأن الله هو الذي تكفل بالتشريع، وما على عباده إلا تنفيذ أحكامه، باستثناء ما لم يرد فيه نص فإن التشريع فيه موكول للمجتهدين المتخصصين، والخليفة في طليعتهم.

وقد ذكر علماء الفقه الدستوري الإسلامي أن وظيفة الحاكم تتلخص في القيام بمسؤوليات إقامة أحكام الشرع في المجتمع، والقضاء بين الناس لفض نزاعاتهم بما أنزل الله، وجباية الأموال لبيت الله للسهر على صرفها في مرافق الدولة طبقا لما حُدﱢد لها من مصارف، واعتماد الولاة للسهر على مصالح الأقاليم، وحماية العقيدة التي يدخل فيها استنفار الأمة للجهاد للدفاع عن الحوزة والكيان، وكلها كما نرى وظائف تنفيذية.

ويفرضُ الاضطلاعُ بهذه المهام الجسيمة التي يمارسها الحاكم تحت بصر الرأي العام ورقابته –كما سنرى فيما بعد- نوعا من السلوك على الحاكم ليحظى تصرفه بالمشروعية التي تقوي الشرعية. فلابد أن يخضع هو نفسه للشرع والقانون، ويتجافى عن الميل للهوى والمصالح الخاصة واستغلال النفوذ واحتكار المسؤولية.

ولما كان الحاكم مطلوبا منه الاجتهاد بالتشاور مع الأمة فيما لم يرد فيه نص اشترط مفكرو الإسلام في اختيار الخليفة صفتي العلم والاجتهاد. ويصبح ما اجتهد في تشريعه المتخصصون تشريعا ملزما إذا وقع عليه الإجماع، أو إذا أصدر الوالي الحاكم أمره بالعمل به بعد التشاور مع المسلمين.

  • نظام البيعة :

وقد انتصب الحاكمون في دول الإسلام المتعاقبة في عدة أشكال وبعدة طرق وإجراءات، ومن بينها البيعة التي قد تكون عامة وقد تكون خاصة.

وتعني البيعة بصورتيها نوعا من التعاقد بين الحاكم والمحكوم، نظرا لكون الطرفين المتبايعين أي المتعاقدين يرتبطان بعقد هو قوام الحكم وقاعدته وإطار حركته، فترسم مقتضياته شروط التعاون بين الطرفين.

والبيعة العامة هي التي تبايع فيها العامة والخاصة الولي الأعظم. والبيعة الخاصة هي التي تقتصر على مبايعة نخبة تعتبر مؤهلة لذلك وتُدعى أهل الحل والعقد لأنها لا تملك إبرام البيعة وفسخها، كما تسمى أهل الاجتهاد وأهل الاختيار.

وقد يجمع بين الصورتين، فترشح النخبة وتوافق الأمة على الترشيح.

إن البيعة تتم إما بمبايعة الأمة مباشرة بالولاية كبيعة النبي وبيعة أبي بكر الصديق، وذلك ما يشبه ما يسمى اليوم الاقتراع العام المباشر، أو بواسطة نخبة معينة من سلطة مسلمة ومقبولة شرعيتُها لتختار بوصفها نخبة الأمة من يتولى الحكم، فهو انتخاب على درجتين.

ولا يرمي ذلك إلا إلى اختيار الأمة بطريق أو بآخر للحاكم لينال الشرعية والمشروعية. فهذا الحق يجب أن يُرعى للأمة من طرف حكامها ليكون تقبل الحكم انطلاقة سليمة للتعاون المنشود والمفروض.

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي