السبت 23 نوفمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: توسط الإسلام أو وسطيته (3)

الأيام 24 الاثنين 19 أبريل 2021

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

توسط الإسلام أو وسطيته

الحلقة (3)

خاصية الإسلام الأساسية تكمن في أن أحكامه وتشريعاته تطبعها الوسطية، فهي بين المنزلتين : لا إفراط ولا تفريط، ولا تطرف ولا تعصب ولا تنطع. إنه رسالة متوازنة تقتعد بين الديانات والأيديولوجيات والمذاهب المكان الوسط. وجميع ما جاء به الإسلام من أحكام واجبة أو ناهية يُشكل وسطا بين طرفين.

ومن أجل ذلك أطلق الله سبحانه على الأمة الإسلامية اسم الأمة الوسَطَ فقال في سورة البقرة : “وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطا، لتكونوا شُهدَاء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (الآية 143).

وبفضل هذه الوسطية أصبحت الأمة الإسلامية مؤهلة للشهادة على الناس. فشهادة التطرف المنحاز مطعون فيها وغير مقبولة. ولأن شهادة من يقتعد الوسط تكون شهادة متوازنة موزونة بالقسطاس المستقيم، وسائرة في الوقت نفسه على الصراط المستقيم، تشهد بالحق الذي لا يقارَع ولا تعارَض صولته، لا بالباطل الذي لا تطول جولته. تنصف ولا تحابى، وتعدل ولا تظلم.

وقد قال ابن كثير في تفسيره إن الوسطية تعني العدل. بل رُوي عن الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الوسط بالعدل (تفسير ابن كثير – الجزء الأول، ص 190). والعدل في حقيقته عملية توازن تقوم بها العدالة لصالح الحق بدون تحيز إلى طرف أو آخر.

وقد وصف الشاعر زهير بن أبي سلمى الوسيط العَدْل الذي يطمئن الناس إلى حكمه بقوله :

هــــمـــو وسَــطٌ يَرْضى الأنـــامُ بحكمهــم

إذا نزلـــت إحـــدى اللــــيـــالـــي الــعــظــائـــــمُ

وقال المفسرون في شرح معنى “أوسطُهم” أنه أعْدَلُهم. وذلك في (سورة القلم، الآية 28) : “قال أوسَطُهم ألم أقل لكم لولا تُسَبحون”.

 

الإسلام في الاعتقاد يتوسط بين من يصدقون بلا حدود، وبين من ينكرون كل شئ ويرفضون. ندد بالذين : “قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون” (الزخرف، الآية 22)، وبالملاحدة الذين أنكروا رسالة الرسل : “وما قدروا الله حق قَدْره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ” (الأنعام الآية 91). وتحاكم مع الجاحدين إلى العقل والبرهان : (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” (البقرة، الآية 111).

والإسلام يحكم بالكفر على من يؤلهون البشر وينقادون إلى عبادة الإنسان، أو يجزئون الإله الواحد أجزاءا تثليثا وتبعيضا، لكنه ينصف هذا الإنسان بتكريم جنسه وتفضيله، ويقف به بعد ذلك عند حدوده. وهو يقف وسطا بين من يبالغون في تقديس الأنبياء إلى درجة التأليه، وبين من لا يعتبرونهم إلا سحرة وأفاكين أو شعراء كاذبين.

والإسلام في العبادة يتوسط “فلا إكراه في الدين” و”ما جعل عليكم في الدين من حرج”. و”لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”. وعلى ذلك فأحكام الفقه الاجتهادية التي تتنافى مع هذه القواعد الأساسية، لابد من إعادة النظر فيها إبعادا للتناقض بين الأحكام القطعية والأحكام الاجتهادية التي تجنح إلى فقه التعسير الذي نهى عنه الرسول عليه السلام في أحاديثه الصحيحة التي سبق ذكرها.

وأخلاقيات الإسلام كلها وسط بين المثالية والواقعية. إن الإنسان في الإسلام ليس ملاكا رحيما ولا شيطانا رجيما. وليس هو حيوانا مجردا بل هو حيوان عاقل، ناطق مكلف، يبعث الله بملائكته إلى رسله المصطفَيْن ليهذبوه ويقوموا اعوجاجه، ويؤهلوه للخلافة عن الله فوق الأرض. وهو جسم وروح في آن واحد، وليس جسدا ماديا صرفا كما تنظر إليه بعض المذاهب. عرفه القرآن بمأتاه ومعاشه ومعاده بما يجعله مطمئنا إلى مصيره إن هو آمن وأحسن السلوك ونفع بعطائه في الحياة الدنيا. والإنسان ليس مسيرا مسلوب الإرادة، بل مخيرا ومُثابا أو معاقَبا على ما يفعل ويَذَر باختياره. “ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يَظْلم ربك أحدا” (الكهف، الآية 49). (وما ظلمهم الله. ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” (آل عمران، الآية 117).

إن رسالة الإسلام رسالة عدل. وهو مفهوم يُختصَر فيه جميع أخلاقيات الوسطية المتوازنة. إنه عدل شامل مع الذات وتجاه الغير والمجتمع. وعدل في التوفيق بين واجب العبادة وواجب العمل، فلا رهبانية في الإسلام ولا زهد في الطيبات التي سخرها الله للإنسان وأباح له استهلاكها واستعمالها فيما خُلقت له، ولا استغراق في الشهوات والملذات التي تشغل الإنسان عن قيامه بواجب العمل الصالح المفيد للمجتمع.

وحض الإسلام على الزواج الحلال وحرم الزنا والفواحش ما ظهر منها وما بطن التي تشيع الأمراض الخبيثة والأوبئة الفتاكة. ولم يعهد الله لرجال الدين بمهمة الاعتكاف الدائم في المساجد، بل أسند إليهم أيضا مهمة الاحتكاك بالمجتمع لمعرفة ما يغشاه من انحراف يستوجب منهم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتقويم والإصلاح.

ومما يدخل في وسطية الإسلام أنه لا يصنف المجتمع إلى رجال دين ورجال دنيا، بل كل مسلم هو في آن واحد رجل دين ودنيا، فكلكم مسؤول عن رعيته. ومن تَرْقَى بهم المعرفة إلى امتلاك معرفة الدين في صورته الحق هم علماء الدين لا رجاله. لا رجل دين في الإسلام يقبل التوبة أو يُصدر صكوك الغفران. ولا أحد مأذونا له أن يسترزق باسم الدين ويستغني برزقه هذا عن الكد لكسب القوت وتحريك الاقتصاد. فهذا النوع من الرجال هم الذين كانوا يقضون بالمسجد نهارهم وليلهم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكانوا لا يعملون ويقولون عن أنفسهم إنهم المتوكلون فقال عنهم (رضي الله عنه) إنهم المتأكلون وليسوا المتوكلين.

وتوسط الإسلام في منهجه الإسلامي فأعطى للمال مكانته ودوره في المجتمع كعصب للحياة، لكنه نهى عن التكاثر المؤدي إلى كثرة الاستهلاك التي تؤدي بدورها إلى تمييع أخلاق المجتمع. إن التنمية في الإسلام للجسم والروح لا لأحدهما على حساب الآخر.

ولم يمنع الإسلام الملْكية ولم يُشرﱢع تأميمها، ولم يأذن بنوعها، لكنه    –في اتجاهه الوسطي- أخضع التصرف فيها لقيود تصل عند الاقتضاء إلى حد نزعها للصالح العام وإعطاء تعويض عنها. ونوﱠع القرآن أسلوب الحث على الالتزام بالوسطية في مجال الاقتصاد تارة بالأمر بالتقيد بأخلاقياتها والنهي عن الوقوع في التورط المفرط فيما يناقضها، وتارة بضرب الأمثال من أعماق التاريخ عن الأقوام الغابرين الذين أهلكهم البذخ ووفرة الغنى وتكاثر الاستهلاك، والغلو في الكسب والاقتناء، والتفاخر بالأموال، والاحتكار والشح في الإنفاق، أي تعطيل قيامهم بمسؤولية التكافل المجتمعي الذي تنشأ عنه طبقة وسطى يكفل وجودها وإسهامها في الاقتصاد توازنا في المجتمع.

ونقرأ في القرآن الكريم هذه الآيات : “وآت ذا القُرْبى حقه والمسكينَ وابنَ السبيل ولا تُبذر تبذيرا. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” (الإسراء، الآية 26-27) كما نقرأ “ولا تجعل يدك مَغْلولة إلى عُنقك ولا تَبْسُطْها كلﱠ البسْط فتقْعُدَ مَلُوما محسورا” (الإسراء، الآية 29). وجاء في (سورة الفرقان، الآية 25) : “والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يُقْتروا وكان بين ذلك قَواما”. وهذا نهْيٌ عن كثرة الاستهلاك وأمْرٌ بالاستثمار، وحث على تحقيق التوازن بين إنتاج  الثروات وتوزيعها، وبين النشاط الفردي الذي يشجعه الإسلام ولكن ليكون في خدمة الصالح العام والرفاهية الاجتماعية.

وجاء في سورة التوبة (الآيتين 34 و 35) : “والذين يكْنزون الذهب والفضةَ ولا يُنفقونها في سبيل الله فبشرْهم بعذاب أليم. يوم يُحمَى عليها في نار جهنم فتُكْوَى بها جباهُهم وجُنوبُهم وظهورُهم هذا ما كنَزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون”.

وهذا حث على كبح طغيان رأس المال : “كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى” (العلق، الآية 6)، وأمرٌ بتهذيبه بإنفاقه في الصالح العام، وتهديدٌ بأشد العقاب في الآخرة لمخالفي الأمر الإلهي من المتكاثرين الجشعين الذين لا يستفيد المجتمع من مدخراتهم.

وفي نطاق الوسطية التي نتحدث عنها ذهب القرآن إلى أن صرف المال على الصالح العام هو العبادة الحق التي لابد منها ولا تغنى عنها واجبات الطاعة الأخرى فقال سبحانه : “ليس البر أن تُوَلوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتَاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة”. وقد تقدم في هذه الآية ذكر إيتاء المال على إقامة الصلاة مثلما تقدم ذكر العمل الصالح على توحيد الله في الآية القائلة : “فمن كان يرجو لقاء ربه فلْيعملْ عملا صالحا ولا يُشرِكْ بعبادة ربه أحدا” (الكهف، الآية 110).

ولْنقل في كلمة جامعة إن النهج الاقتصادي الإسلامي اعتمد الوسطية بين النزعة الرأسمالية اللبيرالية التي قد تبلغ حد الوحشية، وبين النزعة الشيوعية التي تقتعد خط التطرف وتقيم نظام هيمنة الطبقة الواحدة التي تقصي الفصائل الأخرى وتقهر الفرد. وبين النزعتين يقف النهج الإسلامي في وسط العدل والتوازن موفقا بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. وعلى ذلك فلا يجوز أن يُنعت الإسلام لا بنعت الرأسمالي ولا الاشتراكي. وإذ يعمل النظام الرأسمالي في معظمه في إطار اللائكية، والنظام الشيوعي في نطاق الإلحاد، فإن المنهج الإسلامي ليس مذهبا وضعيا، بل هو منهج ترتبط فيه تنظيمات الدنيا بتعاليم الحنيفية السمحة، بجميع ما يحتضنه هذا التعبير من قيم العدل والتوزان والسماحة والتعامل والوسطية.

وقد فصلت الحديث أكثر عن وسطية الإسلام في كتابي : “حقيقة الإسلام” الذي صدر في طبعته العربية منذ أربع سنوات ومنذ سنتين باللغة الفرنسية تحت اسم : “لكي نحسن معرفة الإسلام” « Pour mieux comprendre l’Islam ».

وأختم بذكر آية كريمة أقول عنها كلما ذكرتها إنها ورقة تعريف وهُوية لنبينا الصادق الأمين، جاء فيها التركيز على خلو الإسلام من التطرف وقيامه على الوسطية والاعتدال : “فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون النبئ الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم” (سورة الأعراف، الآيتان 156-157).

الأيام 24

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي