الخميس 21 نوفمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: التطرف الديني (2)

الأيام 24 السبت 17 أبريل 2021

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

التطرف الديني

الحلقة (2)

بعد نظرتنا السريعة التي ألقيناها على دَلالة التطرف اللغوية، ومحاولتنا احتواء طبيعة التطرف من وجهة نظر فلسفية وأخلاقية، نباشر في الشق الثاني من هذه الدراسة التعرف على التطرف الديني سواء في الديانات السماوية أو في المعتقدات الوضعية.

تلتقي الديانات السماوية الثلاث الموحدة على رفض التطرف الديني من خلال نصوصها المرجعية الثابتة في التوراة والإنجيل والقرآن، وخاصة التطرف المرادف للعنف. والديانات الثلاثة تُحرم قتل النفس البشرية إلا بالحق، وتندد بالعدوان. وتختلف فيما بينها قوة وضعفا في تطبيقات وممارسات الحق الإلهي المناهض لتطرف العدوان والقتل. إن النهي عن القتل بصيغة “لا تقتل” كان إحدى الوصايا العشرة التي كلم الله بها موسى تكليما، وحملتها الألواح التي جاء ذكرها في سفر التثنية وفي القرآن أيضا. كما جاء النهي عن القتل في صحف موسى التي ذكرها الله في القرآن بهذا الاسم، والتي شهد لها القرآن بأنها رحمة وقدوة ويُقتدَى بها : “ومن قَبْله كتاب موسى إماما ورحمة” (سورة هود، الآية 12).

وتطفح تعاليم النبي الرسول عيسى عليه السلام بالحض على تقبل الظلم بالصفح والعفو، وعدم الرد على العدوان بمثله، مما يعني أن تعاليم المسيح حيال التطرف متوازنة وعادلة، بل متسامحة أشد ما يكون التسامح الذي يعد التطرف أكبر خصومه وألذ أعدائه.

واشتهرت رسالة عيسى بن مريم بأنها دين محبة وعدل وإحسان وتسامح. وهذه القيم الأربع يرفضها التطرف ويخاصمها. وإذا كانت شريعة موسى قد نهت عن القتل فقد جاء عن المسيح في إنجيل متىﱠ (5/21) : “قال موسى لا تقتل، فإن كل من يَقتُل يستوجب الدﱠيْنونة” (أي جزاء الله). أما أنا فأقول لكم : “إن كل من غضب على أخيه وإن لم يَقْتُل استحق الدﱠيْنونة”.

أما في الإسلام فلم يرد في القرآن مصطلح التطرف، بل الغلو مرادفه الذي نهى عنه الله ورسوله بهذا اللفظ. وجاء ذلك في آيتين كريمتين أمر الله فيهما نبينا ورسولنا أن ينهى أهل الكتاب يهودا ونصارى عن ممارسته. وتقول الأولى في سورة النساء : “يا أهل الكتاب لا تَغْلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا بالحق. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته”. وجاء في سورة المائدة، الآية 77 : “يا أهل الكتاب لا تَغْلوا في دينكم غير الحق”. وقد وصلوا في الغلو إلى حد تأليه المسيح أو جعله جزءا من الإله.

وإذا كان النبي محمد عليه السلام مأمورا بنهي أهل الكتاب عن الغلو والشطط في الدين، فبالأحرى هو مأمور بأن ينهى الأمة الإسلامية، أي جميع الأمم العالمية التي جاء إليها بدعوته الخالدة. وقد قال عليه السلام في ذلك : “يا أيها الناس إياكم والغُلوﱠ في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغُلو في الدين” (سنن ابن ماجة : 3029). وقال أيضا : “اقرأوا القرآن ولا تَغْلُوا فيه” (مسند أحمد : 15103)، أي بتأويله في وجهة التطرف والتشدد. وتحدثت السنة النبوية عن الغلو باسم التنطع. ففي الحديث : “هلك المتنطعون” قالها رسول الله ثلاثا (صحيح مسلم : 2670) والتنطع هو تجاوز الحد في فهم الدين، وحمل نصوصه التشريعية على مَحْمل التشدد أو التعسير الذي يقابله في الإسلام التيسير الذي حث عليه نبينا عليه السلام في الحديث القائل : “لا تُشَدﱢدوا على أنفسكم فيُشدﱠد عليكم. فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم” (مسند أبي داود : 4904). وجاء في البخاري الحديث القائل : “إن الدين يُسر. ولن يُشَادﱠ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبَه” (39).

إن الغلو والتنطع سواء أكانا إفراطا أم تفريطا لا يؤديان بصاحبهما إلا إلى الوقوع في طائلة الأخْسَرين أعمالا الذين جاء ذكرهم في الآية الكريمة القائلة : “قل هل نُنبئكم بالأخْسَرين أعمالا الذين ضَلﱠ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يَحْسبون أنهم يُحْسنون صنعا” (سورة الكهف، الآية 104).

وإذا كانت الديانات السماوية الثلاث قد أجمعت أصولها على التنديد بالتطرف الديني، فإن بعض معتنقيها مارسوا الغلو المنهي عنه وحرفوا التشريع الإلهي عن مواضعه، وكان سلوكهم الشاذ وراء الخلط المشين الذي التصق بالديانات السماوية، وجعل أعداءها ينسبون إليها العنف والإرهاب وسائر أشكال التطرف، حتى لقد دفع بالملاحدة والمارقين من الدين مُروق السهم من الرمية إلى القول إن الديانات السماوية الثلاث تلتقي على التطرف والعنف والإرهاب، لأنها جميعها جاءت بتعاليم القتل والذبح.

هذا ما قرأته في مقال لأحدهم على إحدى شبكات الإنتيرنيت عنوانه : “الديانات الموحدة خطيرة ومسؤولة عن كبريات مآسي الإنسانية”. وربط صاحب المقال بين أحداث 11 سبتمبر وبين نزعة التطرف الدموي التي قال عنها : “إنها تلتقي عليها الديانات الموحدة التي تتفق على أن إلهها رحمان رحيم، لكنها تحرض على القيام بالقتل والعنف الدموي باسم الإله نفسه”. وقال : “إن اليهودية والنصرانية والإسلام تدعو كل واحدة منها إلى إقصاء وقتل الكافر بها”. وختم مقاله المغرض بدعوة صريحة إلى نبذ جميع ديانات التوحيد وعدم تلقين تعاليمها في المدارس والمعاهد، وتعويضها بتلقين ثقافة حقوق الإنسان، وحب الحياة، والتعايش السلمي البشري. لكن المقال في معظم فقراته كان محاكمة للإسلام والمسلمين من خلال النصوص القرآنية الخاصة بالجهاد وبذل الروح في سبيل الله. وبعد ذلك لم يبق في المقال للديانتين اليهودية والنصرانية من نصيب سوى بعض اللمزات الخفيفة التي ضاعت في غمرات القذف (أو الإرهاب الفكري) الذي مارسه الكاتب على الإسلام والمسلمين جزافا وبلا حدود.

وقد كان لاجتهادات أحبار اليهود التي طبعت الفقه اليهودي بطابع التطرف والعنصرية ونزعة شعب الله المختار –وهو ما جاء في التلمود-، أثر كبير على تحويل تعاليم موسى النقية إلى شرع وضعي يبيح قتل الأغيار المدعوين بالعبرية بالغويمية، ويشرع لهم تشريعات عنصرية، ويقنن أن لا قصاص على اليهودي من قتل الغير، بل ويجعل غير اليهودي أدنى في نظر شريعتهم الفاسدة من القردة والخنازير.

وهذه النزعة اليهودية المتطرفة هي التي تسود اليوم إسرائيل ويتزعمها الحاخام (العراقي أصلا) يوسف عُبادية، وتؤمن بها الأحزاب الدينية المشاركة في حكومة شارون الذي يعتنق هذا الاتجاه ويطبقه سياسيا ودمويا، على “الأغيار” الفلسطينيين.

وقد عرف تاريخ الكنيسة الكاثوليكية التطرف الديني سواء على صعيد التنظير الفكري، أو على الصعيد العسكري، عندما وقع غزو الشرق الإسلامي بدءﹰ من نهايات القرن الحادي عشر الميلادي باسم الصليب، وعندما أُعلن أن انتصار الفرنجة في حروبها كان انتصارا للصليب على الهلال.

كتب “سيميرنوف أفغراف” في كتابه : “تاريخ الكنيسة المسيحية” (تعريب المطران ألكسندروس، ص 369) : “إن الحروب الصليبية قد سببت لمسيحي الشرق أكثر من الشر بينما كانوا ينتظرون منها تخفيف حالهم وتحسين وضعهم. فالصليبيون المتطرفون كانوا يعاملون الأقطار الأوروبية التابعة للمملكة البيزنطية (كاليونان) وكنائسها الأورثودكسية باحتقار وبغض، بتحريض من رجال الدين المتطرفين اللاتينيين. ولما انتقلوا إلى آسيا (تركيا مثلا)، ضيقوا على الأورثودُكسيين بدعوتهم البابوية المحرضة على النهب والاغتصاب”.

كما نقرأ في كتاب “تْوينبي أرْنولْد” “تاريخ البشرية” (ترجمة نقولا زيادة – الصفحة 163) قوله : “وحلت المصيبة الكبرى بالأمبراطورية الرومانية الشرقية سنة 1204م عندما هوجمت القسطنطينية واحتٌلت مرتين من قبَل قوة مشتركة من الصليبيين الفرنسيين. وكانت هي المرة الأولى التي تمكن فيها الأعداء الصليبيون من مهاجهة عاصمة القسطنطينية ونهبها بوحشية فظيعة”. وعلق على هذه الوحشية المؤرخ “ويرتيموثي” في كتابه : “الكنيسة الأورثودكسية في الماضي والحاضر” قائلا : “إن البيزنطيين رأوا كيف أن الصليبيين كانوا يقيمون المذابح ويحطمون المباني ويُجلسون العاهرات على كرسي البطريرك في كنيسة أيا صوفيا ويبثون الذعر والهلع، ويفعلون ذلك وهم يحملون الصلبان فوق صدورهم”.

كما ينبغي التذكير بأن الكنيسة كانت وراء الحملات الاستعمارية التي أخضعت بها قوات الشمال الأمبريالية عالم الجنوب ومنه العالم العربي الإسلامي، وبأن دعوتها التبشيرية كانت تتبع خطوات الغزو الاستعماري الذي كانت تسنده الكنيسة روحيا بينما كان هو حاميها ومشجعها.

ولقد عشنا في القرن الماضي نموذجا للتطرف المسيحي المشتط في حمأة الصراع الدامي الذي عصف بإيرلندة الشمالية، وتميز بالعدوانية الدموية بين الكاثوليك والبروستانت.

كما عشنا منذ 11 سبتمبر تصرفات تنظيم القاعدة المسلحة التي آوتها واحتضنتها حكومة طالبان الأفغانية التي طبقت نموذجا مشتطا للتعصب الديني المنطوي على نفسه، والذي يجهل ما يجري حوله وبالأحرى ما يجري حول العالم. وقد دفع هذا التعصب الأعمى الذي يجهل حقيقة الإسلام إلى قذف الدين الإسلامي من أعدائه بأنه دين عنف وإرهاب، وإلى مطاردة المسلمين لإنزال أقسى العقوبات وأبشعها بالبُرآء منهم في مشارق أرض الإسلام ومغاربها. وانطلق هذا التعصب الأعمى من فهم خاطئ للإسلام، إذ باسمه قال ابن لادن بعد ضربته العشواء يوم 11 شتنبر 2001 التي سقطت فيها حتى أرواح المسلمين : “إن العالم مقسم إلى فُسطاطين : مجتمع الإيمان ومجتمع الكفر”. بينما الإسلام في العهد النبوي وفي دولة المدينة ودستور الصحيفة، لم يقسم العالم على فُسطاطين يقوم فيه مجتمع الإيمان بمهاجمة مجتمع الكفر والعدوان عليه في عقر داره. والقرآن يقول : “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدُوا إن الله لا يحب المعتدين”.

الأيام 24

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي