الجمعة 27 سبتمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

عبد الهادي بوطالب وإصلاح التعليم وعالم "ما بعد كورونا"

الخميس 10 ديسمبر 2020

 

أكدت جائحة "كورونا" أهمية التعليم الرقمي والبحث العلمي في عالم اليوم. إذ أمام الحجر الصحي وإغلاق المدارس والجامعات، لم تجد الدول والحكومات من سبيل غير خيار اللجوء إلى التعليم عن بعد. وبالنسبة إلينا في المغرب، فإن التقييم الأولي لهذا الخيار، يؤكد بأن على بلادنا أن تجتهد لملاءمة التعليم مع المتطلبات الرقمية، بتوفير كل الإمكانيات المادية والبشرية وتأهيلها للانخراط في العصر الرقمي.

ويرتبط هذا الأمر بما يستوجبه التعليم اليوم من إصلاحات عميقة وجوهرية تماشيا مع النقاش الجاري حول النموذج التنموي الجديد، الذي لا يمكن أن يتحقق بدون تعليم عصري وحديث "منخرط في منظومة التحديث العالمي الشامل" كما يقول الأستاذ عبد الهادي بوطالب، الذي كانت له آراء ومواقف واجتهادات حول إصلاح المنظومة التعليمية إذ أن علاقة الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالتربية والتعليم علاقة مطبوعة بالتنوع والتعدد وبالخصوبة، وهي على ارتباط وثيق، أولا، بدراسته وتدريسه بجامعة القرويين التي احتك فيها بالثقافة الأصيلة وبالفقه والشريعة. وثانيا، بتدريسه ولي العهد آنذاك جلالة الملك الحسن الثاني في المعهد المولوي بالرباط، في هذا المعهد احتك بنخبة من الأساتذة، كان الوحيد من بينهم من يرتدي لباسنا الوطني أو التقليدي الجلباب. هكذا إذن ينتقل الراحل عبد الهادي بوطالب من عالم إلى عالم جديد، بعد أن تولى عددا من المسؤوليات الحكومية، من بينها وزارة التربية الوطنية، حيث ينتقل    عبد الهادي بوطالب إذن من عالم التدريس، إلى عالم الفعل والمسؤولية والإدارة التربوية، وفي هذه المرحلة التي تحمل فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب هذه المسؤولية، كان النقاش على أشده حول قضايا التربية والتعليم، إذ لم تكن قد مرت على استقلال المغرب إلا بضع سنوات، حيث كانت قضايا الهوية واللغة والتوحيد والمغربة، تحتل واجهة النقاش في مغرب الستينات.

والأستاذ عبد الهادي بوطالب الذي احتك بقضايا التعليم على المستويات المحلية والوطنية إما كأستاذ بجامعة القرويين أو بالجامعة المغربية كأستاذ للقانون الدستوري والعلاقات الدولية، تتاح له الفرصة لكي يحتك بقضاياه على المستوى العربي والإسلامي والدولي، بعد تحمله لمسؤولية مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. لقد تحمل هذه المسؤولية لمدة عشر سنوات، وخلال هذه المدة كانت له جولات واتصالات ومبادرات وبرامج عمل ومخططات..جعلته يحتك عن قرب، بأنظمة التعليم ومحتواه ونتائجه في بلدان العالم الإسلامي، حيث وقف عن مكامن الخلل الذي يحد من التطور والنمو داخل البلدان الإسلامية، وبالعودة إلى خطبه وكلماته التي ألقيت في أكثر من مناسبة بهذه الندوة أو هذا الملتقى العلمي والفكري في هذه الدولة الإسلامية أو تلك، تبرز بكيفية صارخة انشغالاته واهتماماته التي تتمحور حول الطريقة أو المنهجية التي يمكن أن تنتقل بها الأمة الإسلامية من التبعية للغرب إلى ما يجعلها دولة مستقلة بأبحاثها العلمية والتكنولوجية.

وفي محاضرة له، حول "رسالة الجامعة في التعليم والتنوير" التي قدمها كدرس افتتاحي بكلية الآداب بالجديدة في 15/04/2004 يقدم الراحل، مجموعة من المقترحات التي يعتبر، بأن على كل إصلاح للتربية والتعليم في المغرب، أن يستحضرها في ذاكرته، لتكون منطلقا للإصلاح في مغرب اليوم.

لقد تزامنت هذه المقترحات مع النقاش الذي كان جاريا آنذاك حول إصلاح التعليم في المغرب وحول الميثاق الوطني للتربية والتكوين والجدير بالذكر أن هذه المقترحات ما زالت تفرض نفسها، حيث يتعين علينا إبرازها اليوم في ظل ما تستدعيه الإصلاحات من أفكار ومقترحات واجتهادات. وفيما يلي نقدم خلاصة لهذه المقترحات :

أولا، على إصلاح التعليم أن يستهدف المواطن المغربي الذي سيندمج في المحيط العالمي الواحد، بفعل التحولات المتسارعة في ظل عالم يتحرك وتنتقل فيه البضائع والإنسان والأفكار والمعلومات وتتحد فيه المفاهيم وتذوب فيه الخصوصيات بلا حدود ولا قيود ولا حواجز.

ثانيا، إن التعليم الذي يلقن للطفل اليوم يجب أن يوفر له وهو شاب متخرج قدرة الاندماج في عالم العولمة بسهولة وسير، وهذا لا يتأتى إلا بتحويل التعليم المغربي إلى تعليم عالمي.

ثالثا، يجب تبني التجارب الناجحة في التعليم بدون تردد، لأن ما أصبح اليوم صارخ النجاح في نقطة من المعمور يصبح ناجحا في جهة أخرى.

رابعا، يشير الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلى تحقيقات صدرت في الولايات المتحدة الأميريكية أن الطفل حتى وهو ما يزال في بطن أمه يسمع ويختزن في ذاكرته ما يسمع، ثم يبدأ مرحلة ممارسة تعليم نفسه بنفسه منذ أن يخرج من بطن أمه، فيبدأ بالبصر ثم بالفهم والوعي والإدراك. وصدق الله العظيم الذي رتب حواس الخلق على هذا الترتيب فقال : "وجعل لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدة".

 

خامسا، إن ذلك يعني أن الدراسة يمكن أن تبدأ في التعليم الحضاني والإعدادي في سن مبكرة دون انتظار بلوغ الأطفال سن الرابعة أو السادسة. كما تعني أيضا أنه يمكن أن يُـبذر في ذاكرة الأطفال طيلة سنواتِ ما قبل البلوغ أكبرُ ما يمكن من المعلومات بتكديسها في أذهانهم بدون مخافة الإرهاق أو العجز عن الاستيعاب. ومن ذلك تلقينهم لغاتٍ أجنبية متعددة في آن واحد. وهناك تجارب معيشة لأطفال تلقوا في تعليمهم الابتدائي ثلاث أو أربع لغات استوعبوها وهضموها وامتلكوها، وتلقوا معها وبها دراساتٍ ومعارف، ونبغوا فيها وتفوّقوا. وقد استفاد الأمير ولي العهد سيدي محمد من هذه التجربة فتعلم في سن مبكرة اللغات العربية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية. واستفدتُ من هذه التجربة كذلك وأنا في مقتبل عمري فأكملتُ حفظ القرآن في سن تسع سنوات. وكنت استظهره عن ظهر قلب. ولقنني معلمي وأستاذي محمد بن عبد الله رحمة الله عليه دروسا في مختلف المواد طيلة أربع سنوات كانت تمتد من الصباح إلى المساء وبدون عطلة ابتدأتها وأنا في التاسعة من عمري. وعندما سعيت إلى تسجيلي كطالب في القرويين أجْري  عليَّ امتحانُ المستوى فقبلتُ في السنة الرابعة من الثانوي واختزلت بذلك ست سنوات من الدراسة. وأمكنني بذلك أن أتخرج من الجامعة أصغر أستاذ وأصغر دكتور في سن لا تتجاوز عشرين سنة ونصفا.

 

سادسا، تقول دراسات عن التكوين المستمر في المدارس إنه لا ضرورة لتعطيل الدراسة في المدارس والمعاهد والجامعة ثلاثة أشهر كاملة. فكلما اختصِـرت المدة كان أفضل. وقدرات الأطفال والشباب من القوة بحيث لا تحتاج إلى استراحة طويلة الأمد. ويدخل في ذلك اختصار عطل الأعياد والمناسبات الوطنية والتاريخية وما أكثرها في المغرب !

سابعا، ضرورة تجديد طرق التعليم بإدخال المعلوميات في جميع أقسامِه وكافةِ مرافقه، وتدريب التلاميذ على الاستعمال الآلي كالحاسوب الإليكتروني والتعاطي مع الانتيرنيت ف سن مبكرة، والجمع في الحصة الدراسية في جميع أطوار التعليم بما فيه الجامعي بين التعليم النظري  والتطبيقي في آن واحد، وتحويل الأستاذ الجامعي من أستاذ كرسي محاضر لا يجري بينه وبين طلبته في الجامعة حوار أو نقاش إلى أستاذ يلقـن في آن واحد التعليمين النظري والتطبيقي.

ثامنا، اختيار اللغة الإنجليزية (لغة الإعلام والإنتيرنيت والبحث العلمي) لتدريسها بدءا من طور التعليم الابتدائي لغة ثانية  بعد اللغة الوطنية. وتقول الإحصائيات إن مخزونات "الإنتيرنيت" باللغة الإنجلـيـزيـة تبلغ 85%  من مخزونه. ويمكن في الابتدائي إضافة الفرنسية أو الإسبانية كلغة ثالثة. وقد تنبأ العالم الإسباني "كاميلو خوزي سيلا" الحائزُ على جائزة نوبل للآداب سنة 1989 في دراسته عن مستقبل اللغات أنه لن يبقى من اللغات العالمية قبل نهاية القرن الواحد والعشرين إلا أربع لغات هي : الإنجليزية، والإسبانية، والصينية، والعربية. ولكن فيما يخص العربية بشرط أن تصبح لغة المسلمين الذين سيتجاوز عددهم عبر العالم المليار والنصف في منتصف هذا القرن، وهذا ممكن تحقيقه فاللغة العربية هي لغة القرآن الذي يلتقي عليه المسلمون ويسعون إلى فهمه والاهتداء بهديه. وكل لغة يتكلم بها أقل من 200 مليون ستنقرض لا محالة وتموت. واللغة الفرنسية احدى اللغات المهددة بالانقراض، وكذلك اللغة العربية إذا اقتصر استعمالها على العالم العربي.

تاسعا، ينبغي أن يراعَى في الإصلاح أن يتوحد ويمتد الجذع المشترك للتعليم في جميع أطوار التعليم من الإعدادي مرورا بالابتدائي وانتهاء إلى السنة الرابعة من الثانوي وهي محطات الدراسة أو الثقافة العامة، على أن تحتوي هذه الدراسة الثقافة على التعليم العصري المعاصر بجميع مشاربه وعلى الثقافة الإسلامية بما فيها حفط ما تيسير من القرآن وتفسيرُ بعض سوره، وأن يُحذف من التعليم تعليم الكتاتيب والتعليم الأصيل لأنهما غير منتجيْن وأصبحا متجاوَزين في عصر التحديث، وعندما يصل تلاميذ الثانويات إلى السلك الجامعي يكونون ملمين بالثقافة العالمية العامة مهـيَّـئين للتخصص، ومسلحين بالقدرة على مواصلة البحث والاكتشاف بعد مغادرتهم الجامعة.

فالتعليم في جميع أطواره يجب أن يقوم بدور تكوين المواطن وتهذيبه وتخليقه، وتربيته على ثقافة المواطنة، وممارسةِ الحياة الديمقراطية، وحسن المشاركة الأخلاقية في الاقتراع، توقيا لإصابة النظام الديمقراطي بالتمييع والتشويه، وعلى تحسيس المتعلم بآفات وتلاعب المسؤول عن الشأن العام بالمال العام، والتعامل بالإرشاء والارتشاء، والتربية على ثقافة حقوق الإنسان، وتخليق رجل السلطة، وضرورة تلقي المتعلم دروسا عن رجل السلطة الجديد وواجباتِه وحدودِ سلطته، وتربيته على ثقافة تكريم المرأة وإنصافها وتمتيعها بحقوق المساواة مقابل قيامها بالواجبات، وتربيته كذلك على الوعي بضرورة الانفتاح والابتعاد عن التشدد في الدين، وإقصاء خيار العنف في التعامل، وعدم إطلاق العِـنان للأحكام المطلقة، ولنزوعات الإقصاء، وتكفير المجتمع، واستعمال الدين السياسوي في غير ما جاء به الدين الحق.

ويجب إعداد كتب متخصصة في هذه الثقافات تُقرَّر في المدارس والمعاهد والجامعات وتـتـدَرَّج محتوياتها حسب أطوار التعليم، لتكتمل بذلك منظومة التنوير والأخلاق المطلوبِ التحلي بها في كل مجال.

إن مجموع ذلك هو ما يشكل في عبارة جامعة دور الجامعة في التكوين، والتنوير، والتربية، والتخليق، وإعداد المجتمع الصالح المنخرط في عصره، المشدود إلى جذوره وخصوصياته.

هذه هي مقترحات الأستاذ عبد الهادي بوطالب لإصلاح التعليم وهي مقترحات، مازال أكثرها قابلا للتنفيذ، إنها مقترحات يمكن أن تكون جزءا من النقاش الذي يتعين على المغرب الخوض فيه، خاصة وأن العديد من الباحثين والمحللين يطرحون جملة من الأفكار والتصورات حول عالم ما "بعد كورونا" الذي سيكون عالم المعرفة والبحث العلمي والتعليم الرقمي بامتياز. هذا العالم لا يمكن أن نكون جزءا منه إلا بالعلم والمعرفة، بالخلق والابتكار..ولنا من الإمكانيات الكثير لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية قوية وإلى نهضة وطنية بمشاركة كل القوى الحية وكل الفاعلين في المجال.

     عن مؤسسة عبد الهادي بوطالب

                             

أخبار و أنشطة و منشورات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي