الجمعة 27 سبتمبر 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

الأسلوب القرآني (الحلقة 7)

  • الأسلوب القرآني 

يتحدث الله نفسه إلى رسوله والمؤمنين والناس جميعا في أغلب الآيات القرآنية بصيغة الجمع المفيد للتعظيم، بلفظ إنا، ونحن، وتارة بالفرد، إني، وأنا، وورد الحديث كثيرا في القرآن عن الله مع ضمير الغيبة : الله الذي، فالقرآن –كما سبق ذكره- كلام الله بلفظه ومعناه، والله ينسب في القرآن لنفسه خلق المخلوقات بخلقه النطفة التي يتكون منها المخلوق بشرا وحيوانا، وخلق النبات بإنزال الغيث الذي ينسبه إلى نفسه، كما ينسب إليه خلق ملكوته وفق إرادته، وملكوت الله ومُلْكه هو كل ما يوجد على سطح الأرض وفي باطنها، وما تحتويه السموات وما يشكل الأجرام والكواكب والنجوم وما يوجد في العوالم التي نجهلها، وإليه –كذلك- ينسب تحديد الأعمار، وبعث الموتى، والعلم الكامل إليه منسوب، وهو الذي يوتيه، وبسط النفوذ فوق الأرض إليه يعود وعن إرادته يصدر.

كل ذلك وغيره ينسبه الله إليه في القرآن في صيغة المتحدث بجمع التعظيم : "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (سورة الحجرات 49 الآية 13) "أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون" (الواقعة 56، الآية 69)، "أفرأيتم ما تمنون أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون" (الواقعة 56 الآية 59)، إلى غيرها من الآيات الأخرى.

ويتحدث الله في القرآن عن نسبته إنزال القرآن إليه، وتهييئه محمدا عليه السلام لتلقيه، وعنايته به ليدربه على قراءته كما أنزله عليه، فالقرآن ليس من إنشاء محمد ولا من كلامه.

إنه على عكس الأناجيل التي تُنسب إلى مؤلفيها، وفي طليعتها الأناجيل الأربعة المعتمدة من الكنيسة، إنجيل متـى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا التي لا يُعرف بالضبط متى ظهرت، ولا يُعرف عنها إلا أنها لم تظهر في حياة عيسى، ولم يقع بشأنها حسم في الخلاف عليها هل ظهرت في سنة 70م أو 140م أم خلال تواريخ أخرى؟

ويخاطب الله رسوله في هذا القرآن مباشرة متوجها إليه بلفظ "قل"، أو "أنت" ودائما بصيغة المفرد، يأمره وينهاه وينقد أحيانا سلوكه في صيغة : "لمَ فعلت كذا؟ ما كان لك أن تفعل كذا" و"ما يدريك؟"، وكان النبي يمتثل لذلك ويتراجع في الحين عما كان اتخذه باجتهاده أو ما كان يهم باتخاذه من سلوكات ومواقف.

والقرآن والسيرة النبوية حافلان بالأمثلة على هذا الانتظام النبوي لتنفيذ التعاليم الإلهية باستسلام وتسليم.

وحين يبدو أن الرسول يساوره في بعض شؤون الوحي هموم، أو يخشى التمادي والعناد ممن يبلغهم دعوته يخاطبه الله مباشرة بهذا الخطاب وما يشابهه : "وإن تولوا فإنما عليك البلاغ" (سورة عمران 3، الآية 99).

وكانت الآية الأولى التي نزلت على الرسول بغار جبل حراء أمرا له بالمفرد بالقراءة : (إقرأ)، والأيات التي تلتها لتشجيعه على الصبر وعلى تحمل نزول الوحي عليه أمرا بالمفرد بالقيام : "يا أيها المزﱡمل قم الليل إلا قليلا" (السورة 73 الآية 1) وبالجهر بالدعوة : "يا أيها المدﱡثر قم فأنذرْ" (السورة 74 الآية 1).

وعندما نهاه عن تحريم ما أحل الله له خاطبه بالمفرد كذلك في سورة التحريم (رقم 66) بقوله : "يا أيها النبئ لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك؟" (الآية رقم 1). وعندما عاتبه على انصرافه عن الاهتمام بعمرو بن قيس ابن أم مكتوم الأعمى وتوجهه إلى دعوة مشركي قريش، جاء العتاب في صورة أوامر بالمفرد في سورة عيسى (رقم 80 الآية 2 وما بعدها)، لكن العتاب ابتدأ بتعبير قاس تحدث الله فيه عن الرسول بضمير الغيبة، وهو الذي عوده الخطاب المباشر، فقال : "عبس وتولى أن جاءه الأعمى"، ثم واجهه بخطاب المفرد مستنكرا منه توليه عن ذلك الأعمى الذي كان من أوائل المسلمين فقال : "وما يدريك؟" إلى آخر الآية.

وكلما توجه الله بالخطاب في القرآن إلى محمد أو تحدث عنه يقتصر الحديث على وصف الرسول بالعبد أو النبي أو الرسول، ووصف العبد وصف عام للبشر، فهم جميعا لله عبيد وعُباد، عبيد خاضعون وعُباد يعبدونه خائفين، ووصف الرسول وظيفة، ولا يضفي القرآن على محمد لا ألقابا تشريفية، ولا نعوتا تفضيلية.

وعندما أشيع في صفوف المسلمين وهم في غزوة أُحُد أن الرسول مات في المعركة، وشاعت البلبلة بين الصحابة ووقع التصدع، جاء الوحي –والمعركة محتدمة- يقول عن محمد : "وما محمد إلا رسول قد دخلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم"، مقللا من شأن موته، فالعمل لنشر الرسالة لا يتوقف عليه وحده، ولا ينتهي برحيله عن الدنيا، وإنما يتوارث رسالته بعده المؤمنون، وينقلون دعوتها جيلا عن جيل.

  • القرآن معجزة محمد

يُعد القرآن المعجزة التي نزلت من الله على محمد وتميز بها عن الرسل الآخرين الذين جاءوا لإثبات صدق رسالتهم بمعجزات مادية، إذ كانت نجاة نوح ومن تبعه من الطوفان وغرق من خالفوه معجزة له، وجاء غرق فرعون ومن تبعه ونجاة موسى ومن معه، وإلقاؤه عصاه في وجه سحرة فرعون من معجزاته، وجاء إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى من معجزات عيسى.

أما محمد (عليه السلام) فقد أثرت عنه معجزات مادية كإظلال الغمامة إياه، وانفجار الماء من بين أصابعه، لكن معجزته الكبرى كانت القرآن بأسلوبه الممتنع عن التقليد والمحاكاة، وبمحتوياته الحافلة بالمعاني والدلالات والإشارات والرموز، والتنبؤ بالمغيبات التي تأتي طبقا لما جاء به الوحي، وكذلك بما حفل به القرآن من حقائق علمية لم يكتشفها العلم إلا حديثا.

فمن حيث الأسلوب جاء القرآن تحديا للعرب الفصحاء، إذ لم يرج في مجتمعهم كتاب مثله، ولا سمعوا بما يشبه أسلوبه من قبله : إنه ليس شعرا بالأوزان والقوافي وعمل الخيال كأشعار العرب، وموضوعاته فريدة متميزة لم يطرقها قبله شاعر، وحين يهُم من ينكرون رسالته بأن يُجمِعوا على أنه شاعر تنكسر هذه التهمة بالعودة إلى أن هذا المتلو عليهم ليس بالفعل شعرا، فيقولون عنه إنه سحر، لكنهم يباغَتون بأن من أُعطي هذا "السحر" كان القرآن يعطي عنه صورة غير صورة السحرة، فهو لا يعلم من الغيب شيئا، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا يعطيه هذا السحر جزاءاً ماديا، ولا يرتزق به، وهو لا يختلي بنفسه عن الناس لتعاطي السحر، ولا يلتجئ إلى معلم لامتلاكه وإتقانه، ويقولون صباحا ومساء فلا ينكرون من أقواله إلا ما يتلوه من هذا القرآن "المزعج" المُسَفه لديانات الشرك والوثنية التي كانوا يتمسكون بها وقالوا عنه إنه من كلام محمد تَقول به على الله فرد عليهم القرآن ردا عنيفا تعرض به النبي إلى الوعيد من ربه إن فعل ذلك فقال عنه في سورة الحاقة (69 الآية 44 وما بعدها) : "ولو تَقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا من الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين".

والنبي الصادق قرأ هذه الآية كما هي إثر نزولها، بما فيها ذكر هذا الوعيد لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى كما جاء في سورة النجم.

وقد اتهم المشركون الرسول بكل ذلك، والحالة أنه معروف عندهم بصدقه منذ نشأته إلى بعثته، مشهور بأميته، فالكُتاب والقراء في مجتمعهم كانوا يُعرفون لقلتهم.

إن القرآن تحداهم أن يأتوا بما يعادل آياته أو حتى سورة من سوره، وحاول البلغاء المتضلعون منهم في اللغة وآدابها ففشلوا في تقليده ومحاكاته، ولقد تحدث القرآن نفسه عن هذا في سورة الإسراء (17 الآية 88) مخاطبا الرسول فيها بلفظ "قل" : (قل لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وعن ذلك يقول الدكتور لوريا فاليري : "إن أسلوب القرآن فريد من نوعه، ليس له مثيل سابق في الأدب العربي، وهو يقع من النفس البشرية موقعا صحيحا، لا تصنع فيه ولا افتراء، ولا تمويه ولا استكراه، وجميع آياته على جانب كبير من الفصاحة، وقد ذُكرت فيه سير الأنبياء بتفاصيل دقيقة، وتحدث القرآن عن بدء الخليقة ونهاية العالم بدقة كذلك، وجاءت فيه أحكام واضحة الدلالة، وتدقيق عن صفات الله وخصائصه لا توجد في غيره، ولكن دون أن يفقد شيئا من روعته، وينتقل القرآن من موضوع إلى موضوع دون أن ينحط تعبيره عن مستواه أو تنقص حلاوته"، والمعلومات الواردة فيه عن التاريخ وتطوره لا يمكن أن تكون في متناول عربي أمي لم يكن في وسعه استقصاء بطون كتب التاريخ.

الثلاثاء 11 أبريل 2023

الموافق 20 رمضان 1444

 

أفكار، آراء ومقترحات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي