نواصل في الحزء الثاني من هذا الكتاب (ذكريات وشهادات ووجوه) الحديث عن ذكرياتنا في الثلث الثاني من هذا القرن والمغرب يخوض معارك بناء الذات وترسيخ الكيان وصدّ هجومات القوى الاستعمارية التي تكالبت عليه متضافرة معبأة لتنال من قدراته على النضال الوطني السياسي والفكري من أجل حريته واستقلاله.

وإذا كان الجزء الأول تميز بفصول تناولت البدايات الأولى لظهور الحركة الوطنية وبزوغ طلائع الجهاد الوطني ما اكتنفها من صور الصمود ونماذج المواجهة والتصدي، فإن هذا الجزء يغطي المراحل التالية التي تعاقبت فصولها في سياق استكمال المعركة الوطنية الكبرى التي كان للمؤلف فيها حضورٌ ومشاركةٌ وحُظوَة الانخراط فيها حيث كتب له أن يضطلع بالمسؤوليات النضالية، مع إخوانه في تلك المرحلة المتميزة من تاريخ بلاده من الموقع الذي اختاره عن يقين وإيمان واقتناع.

وكما التزمت في الجزء الأول بالتقيد بالنزاهة في نقل صور الأحداص وملامح الشخصيات ووقائع الذكريات، وألزمت نفسي بالتجرد والموضوعية في رواية هذه الفترات الحيّة من تاريخ بلادي وتسجيل ما عشته وعايشته من قصص الجهاد الوطني وملاحم الصمود والمواجهة والتصدي، فقد آليتُ على نفسي في هذا الجزء أن أسير في هذه السبيل التي أومنُ صادقا بأنها الطريقة المثلى لأداء الشهادة على هذا العصر الذي قُدِّرَ لي أن أحياه، ليس فقط من موقع المشاركة في أحداثه، ولكن من منطلق المساهمة في صنع بعض أحداثه وصياغة العديد من تطوراته التي تلاحقت فصولا إلى حيث أردت أن ينتهي هذا الكتاب بجزءيه بعودة بطل الاستقلال المغربي وصانعه جلالة المغفور له محمد الخامس إلى أرض الوطن من منفاه متوّجا بالتصر في يوم 16 من شهر نوفمبر سنة 1955.

ولقد كنت شديد الحرص في جميع هذه الفصول على رسم الملامح المتكاملة والمترابطة لصورة عصري ما وسعني الجهدُ وأسعفتني الوسائل، فأنا في هذا الكتاب كما أشرت إلى ذلك في مقدمة الجزء الأول أطلق لسجيتي العنان، وأنقاد لما يخطه قلمي من مخزون ذاكرتي غير مُلزِم نفسي بالرجوع إلى مظان التوثيق الأكاديمي، ولا مقيِّدا قلمي بنقل التفاصيل الدقيقة وتسجيل الجزئيات وجَمْعِ الأشتات في كل حين، وإنما كتبت هذه الفصول وأنا مقتنع بالعمل الذي أقوم به، ومؤمن أقوى ما يكون الإيمان بأني أرضيت ضميري، وقلت كلمتي، ودونت شهادتي. وذلك غاية ما يطلب من كاتب، وأقصى ما يلتمس من شاهد على عصر.

والله المسؤول أن يهدينا سواء السبيل.

د. عبد الهادي بوطالب

الناشر الشركة السعودية للأبحاث والنشر

الإيداع القانوني : 1993/330