العالم ليس سلعة

ينتمي الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلى الجيل الأول من الحركة الوطنية الذي ساهم في يقظة الوعي الوطني المغربي، وتأطيره فكريا في اتجاه تحقيق الاستقلال الوطني لكنه ينفرد، داخل هذا التيار الوطني، بسمات خاصة، أبرزها هي هذه النقلة الفكرية الهائلة التي جابها. فهو سليل المدرسة السلفية المغربية، إذ تلقى تعليمه الأولي في القرويين على يد علماء أفذاذ، فحفظ القرآن، ودرس علوم اللغة، والفقه، والتفسير والقانون الإسلامي.

وقد شكل هذا التحصيل شخصيته الثقافية القاعدية التي زودته بأساس ثقافي متين ظل حاضرا خلال كل مراحل هذه الحقبة الفكرية من تطور فكر الأستاذ عبد الهادي بوطالب هي كتاب وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب، حيث يحتفظ الموضوع الأندلسي، وشخصية لسات الدين بن الخطيب (ذو الوزراتين) بأكثر من دلالة ثقافية وشخصية.

انخرط الأستاذ بوطالب باكرا في صفوف الحركة الوطنية، وبخاصة، في الفصيل الطليعي التحديثي الذي يمثله حزب الشورى والاستقلال (الذي اتخذ له فيما بعد اسم حزب الدستور الديمقراطي). ورغم أن تاريخنا السياسي الحديث، وتاريخ الثقافة السياسية للنخبة المغربية التي قادت حركة الاستقلال خلال الاستعمار، ثم عملية بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال، هو تاريخ لم يكتب بما فيه الكفاية، فإن بإمكاننا، من خلال المعطيات الأولية المتوافرة، القول بأن حزب الشورى والاستقلال بريادة المرحوم محمد بلحسن الوزاني هو النواة الأولى لليبرالية السياسية في المغرب بتركيزه على مسألة الشورى والديمقراطية والدستور والمؤسسات.

سيتضح هذا الاختيار أكثر باختيار فكري وسياسي لاحق تمثل في المساهمة في غنشاء "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" الذي يعتبر النواة السياسية التحديثية الأولى في مغرب الاستقلال، والذي تناسلت منه فيما بعد جل فصائل الحركة اليسارية ابتداء من الاتحاد الاشتراكي، إلى فصائل اليسار الأخرى.

وأفترض الآن هذا الانتقال من "حزب الشورى" إلى "الاتحاد الوطني" لم يكن فقط لمعطيات ظرفية تتمثل في ضرورة إحداث التوازن المطلوب تجاه هيمنة حزب الاستقلال على الحياة السياسية في المغرب في أوائل الاستقلال، بل ربما أيضا بسبب تهيئه لتقبل الفكر السياسي التحديثي الذي تبناه الاتحاد الوطني، والذي يمثله "التقرير الذهبي" الذي أعده الأستاذ عبد الله إبراهيم والذي يطفح بالدعوة إلى بناء الدولة العصرية انطلاقا من المؤسسات لا من الالتفاف الأسطوري حول الأشخاص. إلا أن تلاطم الأمواج، واستشراء ثقافة العمف هيأ الأستاذ بوطالب نحو اختيار سياسي تحديثي آخر، لكنه هذه المرة من خلال العمل داخل الدولة نفسهل. وربما كان ذلك هو الاختيار السياسي النهائي الحاسم.

من الأكيد إذن انخراط الأستاذ بوطالب، في فتوتة، في حزب الشورى كات في آن واحد استجابة لوعي متقدم، واستشرافا لتنظيم سياسي حديث للدولة المغربية، وهو الوعي الذي تطور وتجذر ممارسة وتنظيرا وهيأ صاحبه ليصبح بعد الاستقلال أستاذ مادة "القانون الدستوري" و "العلاقات الدولية". وكانت القنطرة الثانية التي احتك فيها بالفكر السياسي الحديث هي المسؤوليات الوزارية والسفارات والمسؤوليات العربية والإسلامية التي تولاها. فقد كانت هذه المسؤؤليات هي المحك الذي كيف ثقافته التقليدية مع النظم، والعلاقات، والأفكار السياسية الحديثة ذون صدمات أو قطائع أو انفصالات. بل إن تطور فكر الأستاذ بوطالب، مثله في ذلك   مثل حالات قليلة كالأستاذ عبد الله إبراهيم وعلال الفاسي، هو حالة عينية تمثيلية لفكر حقق تطورا كبيرا، وجاب عصورا، وقرونا وبنيات فكرية تمتد من ربوع الفكر التقليدي إلى تخوم الفكر العصري.

إذا كانت السلفية والليبرالية السياسية هي الروافد الفكرية الأولى للأستاذ بوطالب والمحك الاختباري الأول الذي هيأه لقطع مراحل التاريخ، فقد شكلت الممارسة السياسية المحك الثاني القوي الذي أهل قابليته الفكرية لفهم الحياة السياسية الحديثة والقبول بها، والمساهمة فيها. فهو عندما كان مستشارا للملك الراحل لم يكن يقدم مشورته كفقيه بل كسياسي عصري يجمع بين أصالة التكوين التقليدي، وجدة الفهم العصري للقوانين التي تحكم العالم الحديث.

وخلال هذا المخاض السياسي الطويل، الذي لم يخل من هزات، وبياضات، ونكبات، وفترات صعبة، استطاع الأستاذ بوطالب أنه يستل شعرته الفكرية من العجين السياسي، فكان يعود بين الفيبنة والأخرى ليتفرغ للعمل الفكري، أو كان يختلس، في زحمة العمل السياسي، بضع لحظات لتدوين رؤاه وتحليلاته التي لم تعد مجرد خواطر أدبية، بل أفكارا اعتصرها من معترك الحياة السياسية والمسؤولية والمؤسسية الرسمية.

والناظر في مجمل كتابات الأستاذ بوطالب، على امتداد هذه الفترة الطويلة، المشحونة يالتقلبات، وبتنوع المسؤوليات، يتبين أن كتابات المرحلة الثانية تتوزع بين الكتابات ذات المنزع الأكاديمي، والتي هي مادة الدروس التي كان يلقيها على طلبة كلية الحقوق في سنوات أو فجوات التدريس، والكتابات التي هي تفكير في ممارساته السياسية والمؤسسة واستخلاص لدروسها، ثم الكتابات التي تشكل المتن الفكري للأستاذ بوطالب، والتي تتمحور حول الإسلام وأهمها الصحوة الإسلامية وحقيقة الإسلام، والحكم والسلطة والدولة في الإسلام...إلخ، وهي تمثل استمرارا تجديديا للخط التنويري في المدرسة السلفية المغربية، والتي يعلن الأستاذ بوطالب بفخر، انتماءه لها وسيره على دربها، كما يعلن أنه تتلمذ على يد روادها الأوائل قبل محمد بن العربي العلوي وشعيب الدكالي وعلال الفاسي وغيرهم من الرواد الذين تميزوا بجرأتهم الاجتهادية الواضحة.

عبر هذا المسار السياسي والفكري الثري، استطاع الأستاذ بوطالب، أن يبلور صورة مثقف مستنير جذوره ضاربة في أعماق التراث، وآفاقه منفتحة على معطيات العصر وثقافته. وذلك ربما حلة عينية نموذجية لإمكان التوفيق بين موقف إسلامي مستنير لا ينغلق على تراثه ولا يرتمي كليا في أحضان الفكر الغربي. فهو يدين "التفكيرالمتحجر الذي يخل بحقيقة الإسلام"، مثلما يدين "التفريط في الالتزام بتعاليم الإسلام". ويعلن أنه يفهم الدعوة السلفية "لا كحركة تدعو للعودة إلى الماضي كغاية في ذاته، بل كدعوة إلى تحرير الحاضر من معوقات الماضي لامتلاك المستقبل". وربما كان هذا هو سر مواقفه المستنيرة من قضايا حادة وحاسمة كقضايا الهوية، والمرأة، وطبيعة السلطة السياسية...، وهي المواقف والتحليلات التي رسمت لفكره في مشهدنا الثقافي صورة فكر إسلامي مستنير، وتوفيقيـ وإصلاحي معتدل.

د. محمد سبيلا

الناشر : جريدة  الزمن

الإيداع القانوني للسلسلة : 99/217

طبع : مطبعة النجاح الجديدة

مؤلفات
أخبار - انشطة و منشورات
Biographie

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

Mission et objectifs

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي