السبت 27 أبريل 2024
العربية | Français ٰ
العربية | Français ٰ

شهادة الدكتور عبد الهادي التازي

عبد الهادي بوطالب

نمط فريد من أنماط المعرفة

وعلم من أعلام السياسة (*)

 

عبد الهادي التازي

عضو أكاديمية المملكة المغربية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد مدير الجلسات

أيها السادة الأعضاء الزملاء الأعزاء المحترمون،

 

عندما كان الإمام إدريس يشيد مدينة فاس عام 193هــ - 809م ضرب قيطونا له هناك، ظل يتتبع منه الحركة، وعندما أوشك البناء على النهاية أنشأ في مكان القيطون قصره الذي عرف منذ ذلك التاريخ باسم دارالقيطون (1).

 

وقد ارتبط اسم هذه الدار بتاريخ الأشراف الطالبيين، وهم فرع من أبناء إدريس، سكنوها بعد عودتهم من مهجرهم أواخر القرن السادس (2).

 

وقد تميزوا باسم «الطالبيين» لأن أربعة من جدودهم حملوا اسم أبي طالب، كان أعلاهم ابن سيدي سليمان الذي رددت أخباره كتب التراجم في بداية أيام بني مرين (3).

 

وقد ظهر من هذا البيت عدد من رجال العلم والفضل والسياسة من أمثال أبي طالب سفير السلطان أبي الحسن (4)، وأمثال أبي السعد الذي تحدث الناس عن صدقه وجرأته (5)، وأمثال محمد بن العربي الذي اشتهر بإعلانه حبه وولاءه لأمير المؤمنين السلطان مولاي اسماعيل الذي وحد المغرب وحرر الثغور وبسط العدل والأمن (6)، وأمثال سيدي الهادي بن حدو بن علال الذي عرف أيام السلطان سيدي محمد بن عبد الله (7)، وأمثال سيدي الغالي داعية الإسلام في إفريقيا الغربية (8)، وأمثال الفقيه سيدي حفيد الذي كان في صدر الموقعين على بيعة السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن (9)، وأمثال الذاكر مولاي عبد المالك وأمثال الشهيد سيدي عبد العزيز (10).

 

فإلى أولئك الآباء ينتسب زميلنا الأستاذ عبد الهادي بوطالب، فماذا عن مدرسته الأولى ؟

 

هناك في مدينة فاس نصف هكتار يحتضن – منذ القرن الثالث الهجري – قلب المغرب النابض الذي ظل يشع على كل أطراف المملكة، ذلك القلب هو : «جامع القرويين» الذي يعتبره المؤرخون، وفي صدرهم كريستوفيتش (11) Christovitchأقدم جامعة في العالم استمرت في أداء رسالتها العلمية منذ إنشائها عام 245هــ - 859م، وقد كانت القرويين بما يتبعها من عشرات الفروع المنبثة في أرجاء المدينة، كانت تتوفر في فترة من الفترات على مائة وأربعين كرسيا علميا يقصدها الناس من كل جهة، وقد تنافس العلماء على اعتلاء منبرها ولو ليوم واحد من حياتهم، وعاد من المعهود المألوف أن الطلبة الذين درسوا في جنوب المغرب أو شرقه أو شماله، يقصدون في النهاية، جامع القرويين إذا كانوا يريدون لصيتهم أن يعلو ولعلمهم أن يروج، لقد قال لوبليش عن فاس «إنها كانت أثينة الغرب الإسلامي» (12).

 

لقد استمرت الجامعة كذلك إلى بداية القرن عندما تضافرت على تعثير مسيرتها طائفة من العوامل التي كانت تسير بها نحو القضاء على ملامح ماضيها الجميل. وهنا قيض الله لها جلالة الملك محمد الخامس رضي الله عنه الذي هب لإحاطتها بعنايته وحدبه، وهكذا فتح جلالته ملف هذه الجامعة وجعله نصب عينه على الدوام، وكانت أول ورقة وضعها في هذا الملف إصدار مرسوم ملكي (ظهير) يحمل تاريخ 10 ذي القعدة 1349 – 29 مارس 1931 يقضي بتنظيم الدراسة فيها، حيث حددت أقسامها وأيام دراستها وامتحاناتها وعرفت منافد خريجيها (13). وإضافة إلى هذا شجع –رحمه الله- إنشاء «مدارس حرة» عبر المغرب كانت بمثابة الروافد لهذا النظام الجديد للقرويين.

 

هنا استعادت الجامعة مكانتها العلمية وإشعاعها الثقافي ومركزها الاجتماعي، وغدا من أمنيات الآباء أن يلتحق أبناؤهم بالجامعة المغربية التي تحتضنها مدينة فاس.

 

هناك بين أساطين تلك الجامعة تعرفت، منذ ست وأربعين سنة على زميلنا سيدي عبد الهادي بوطالب عندما شاع بين الطلبة ذات يوم أن هناك فتى لا يتجاوز الثالثة عشر من العمر استطاع – بعد اجتياز امتحان عسير – أن يلتحق بالسنة الرابعة من القسم الثانوي لجامعة القرويين.

وهنا قصدنا «السارية» التي كان يجلس عندها هذا الفتى بين رفاقه الذين تخرجوا من «المدرسة الحرة» التي كان يديرها الأستاذ محمد بن عبد الله رحمه الله (14)، حيث صدق الخبر الخير.

 

لم يكن الالتحاق بأقسام القرويين آنذاك مشروطا بسن معين، ولذلك فقد كان من الجائز أن نجد في الصف الواحد طالب في عمره عشرون سنة وآخر في عمره ثلاثون، أما أن يكون هناك طفل من ذلك العمر فهذا ما كان حديث المجالس !

 

واستمر سيدي الهادي يقطع الأشواط في ثقة من خطاه إلى أن بلغ القسم النهائي الذي تمنح فيه الشهادة العليا للذين يحظون بالنجاح فيه.

 

كان التقليد جاريا على إنشاء «لجنة ملكية» تختار من علية علماء المملكة لإجراء ذلك الامتحان على من سيحملون لقب «العالم» في ربوع المغرب.

 

ولقد أضيفت إلى مواد الامتحان، هذا العام، مادة إلقاء درس جامعي تختار اللجنة الملكية موضوعه وتحدد أيضا ساعة زمنية لتحضيره تحت سمعها وبصرها.

 

وتشاء الأقدار أن يصادف هذا الامتحان سنة تخرج الفوج الأول من الطلبة الذين ابتدأوا مسيرة النظام الذي سنه جلالة محمد الخامس قبل اثنتي عشرة سنة. لقد قرر جلالته أن يرحل إلى فاس ليحضر حفلات تخريج فوج العلماء الجدد لسنة 1943.

 

وهكذا قام العاهل بزيارة مفاجئة للجامعة صحبة المدير الذي عينه جلالة الملك قبل سنة مديرا لجامعة القرويين، هذا المدير الذي ارتبط تاريخ نهضة القرويين باسمه وذكره وهو أستاذنا الكبير السيد محمد الفاسي الذي سيسعدنا أن نتمنى له وهو بيننا اليوم المزيد من التوفيق والمزيد من العافية.

 

ما زلت أذكر طلعة جلالة الملك وهو يتفقد بنفسه قاعات الامتحان مقويا فينا العزم، باعثا للآمال. هناك تناهى إلينا أنه رحمه الله حضر جانبا من الدرس الجامعي الذي ألقاه الطالب بوطالب على ممتحنيه من مشايخ المغرب.

 

وما ينسى تاريخ القرويين يوم تفضل جلالة الملك فحضر نتائج  تخرج الفوج الأول من أبناء النظام يوم الثلاثاء 25 جمادى الثانية 1362 – 29 يونيه 1943 حيث ألقى خطابه التوجيهي داعيا العلماء إلى عدم الاكتفاء بإلقاء الدروس الاعتيادية بل عليهم أن يجتهدوا في تحسين طرق التدريس وأن يدأبوا على البحث والتنقيب (15).

 

وفي أثناء هذه التظاهرة الكبرى سلم جلالة الملك الشهادة العالمية إلى السي عبد الهادي بوطالب، سلمها إليه بعد أن كتب فيها بقلمه هذه العبارة : «سلمنا هذه الشهادة بيدنا الشريفة لصاحبها العالم السيد عبد الهادي بوطالب جزاء له على حسن اجتهاده وتفوقه وإكراما للعلم الشريف. الإمضاء : أمير المؤمنين محمد بن يوسف، وبقيت هذه مأثرة لزميلنا لم تتكرر قط.

 

لم يقتصر تكريم أمير المؤمنين لابن القرويين على تلك الالتفاتة الأولى من نوعها في التاريخ الفكري للجامعة، ولكنه أضاف إلى ذلك تكريما آخر، ذلك أنه (نور الله ضريحه) أخذ زميلنا معه إلى عاصمة ملكه ليصبح ضمن أساتذة صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن ولي العهد آنذاك حيث أمسى زميلنا على مقربة من جلالة الملك الذي كان يقدره ويرعاه.

 

ولقد كانت هذه الوظيفة المبكرة في المدرسة المولوية، بالنسبة إلى الأستاذ بوطالب، وخاصة في سنه، بمثابة مدرسة أخرى فتحت عيونه على آفاق جديدة كان يتوق إليها من ذي قبل.

 

إن شهادة القرويين بالنسبة إليه إنما كانت إشارة انطلاق لاستئناف نشاطه الجديد. وهكذا برز في اللغة الفرنسية وأتبعها باللغة الإنجليزية، فكان مثلا حيا للازدواجية في الثقافات وتفاعلها.

 

لقد نمت مداركه مع الأيام وتنوعت معارفه مع الزمن، وانبرى متحدثا بليغا، وخطيبا مصقعا، وكاتبا لامعا، وسياسيا بارزا، عندما شارك في أوائل الخمسينات في الوفد الوطني الذي عرض قضية استقلال المغرب على الأمم المتحدة في قصر شايو.

 

ولم يكن غريبا علينا أن نرى الأستاذ بوطالب بعد نفي جلالة الملك المناضل محمد الخامس يأخذ مكانه في حركة المقاومة ويتعرض للإقامة الجبرية إلى أن تمكن من الالتحاق بفرنسا مرة أخرى ليقوم بتعريف الرأي العام هناك على القضية المغربية.

 

ومن هنا رأينا الأستاذ بوطالب يشارك في اجتماعات إيكس ليبان التي كانت تستهدف عودة جلالة الملك من منفاه واسترجاع السيادة المغربية، فكان الأستاذ بوطالب من بين أعضاء الوفد الذي اتصل لأول مرة بسيدنا في منفاه في أنتسرابي بمدغشقر من أجل التزود بآراء جلالته رحمه الله حول الخط السياسي للمرحلة القابلة.

 

ولما تحققت أمنية المغرب في استعادة استقلاله عين جلالته الأستاذ عبد الهادي بوطالب وزيرا للشغل والشؤون الاجتماعية في أول حكومة وطنية ائتلافية ضمن قادة الأحزاب الوطنية.

 

وهنا نلاحظ ظاهرة حضارية كانت تتجلى في الممارسة الوظيفية للأستاذ عبد الهادي بوطالب، لقد كان الزميل ينتمي لحزب سياسي غير الحزب الذي ينتمي إليه الآخرون، لكن هؤلاء كانوا منه محل إكبار واعتبار، وبالمقابل فإنه كان منهم محل تقدير واحترام، ومن ثمة اكتسب حب من خالطوه وتقدير من عرفوه.

 

وكما حظي الأستاذ بوطالب من جلالة محمد الخامس رحمه الله، بتلك الالتفاتات المتوالية، رأينا أمير المؤمنين جلالة الملك الحسن الثاني نصره الله يختاره سفيرا للمملكة المغربية في دمشق قبل أن يقلده منصب وزير للإعلام والشبيبة والرياضة. ثم منصب وزير الصحراء وموريطانيا ثم منصب الوزير المنتدب لدى الوزير الأول والناطق باسم الحكومة أمام البرلمان قبل أن يصبح وزيرا للعدل في أوائل الستينات لينتقل إلى منصب وزير للتربية الوطنية.

 

وقد صحبه التوفيق في كل هذه المهام التي مكنته من الاتصال بالحياة اليومية للمواطنين حيث أمسى على معرفة جيدة بكل معطيات البلاد.

 

وفي أواخر الستينات أصبح الأستاذ بوطالب وزيرا للدولة ثم رئيسا للدبلوماسية المغربية على رأس وزارة الخارجية قبل أن ينتخبه مجلس النواب رئيسا له أوائل السبعينات.

 

وهناك ظاهرة جلية في حياة الأستاذ بوطاالب نرى من حقنا أن ننوه بها، فقد حرص في أثناء كل المناصب التي تبوأها أن يظل على صلة وثيقة برصيده العلمي الزاخر، ومن ثمة رأيناه يشغل كرسي القانون الدستوري والمؤسسات السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الخامس حيث أضاف إلى طلبته القدامى طائفة أخرى من الجامعيين، كانت تجد المتعة والفائدة في الاستماع إليه والحوار معه.

 

لكن الواجب لم يلبث أن نادى الأستاذ بوطالب هذه المرة بعيدا بعيدا إلى واشنطن حيث عمل في نطاق التعبئة الشاملة لنصرة قضية الصحراء العادلة، عمل سفيرا لجلالة الملك لدى الولايات المتحدة الأمريكية ثم لدى جمهورية المكسيك قبل أن يدعوه جلالة الملك إلى وظيفة سامية بالقرب منه حيث أصبح مستشارا له أعزه الله.

 

ومن هذا المنصب عاد مرة أخرى إلى وزارة الإعلام ولكن بدرجة وزير دولة، ومنها عاد الأستاذ بوطالب إلى كرسيه مرة أخرى بالجامعة ليخلو إلى محاضراته، ويتفرغ إلى مراجعة ملفاته قبل أن يتبوأ قبل ستة أشهر، منصبا دوليا هاما على رأس منظمة عالمية تعرف النور لأول مرة، تلك هي المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (16).

 

لكن هل الأستاذ عبد الهادي بوطالب شغلته تلك المناصب جميعها عن الانصراف إلى الكتابة والتأليف ؟

 

سنجد الجواب على رفوف الخزائن المغربية والمكتبات العربية، سنجده ونحن نبحث عن الكتب التي نستشيرها في مادة التاريخ والأدب ومادة السياسة والاقتصاد ومادة الفقه والقانون الدستوري.

 

فهو صاحب كتاب «وزير غرناطة للسان الدين ابن الخطيب» الذي طبع عدة مرات والذي تناول فيه فترة من فترات الوجود الإسلامي بديار الأندلس بأسلوبه الشيق البديع وحقائقه التاريخية الأصيلة (17).

 

وهو صاحب كتاب «هذه سبيلي» الذي سجل فيه مذكراته لحقبة متميزة من الكفاح الوطني (18).

 

وهو صاحب البحث الهام الذي يحمل عنوان : «بين القومية العربية والتضامن الإسلامي» الذي يعتبر مرجعا حيا للدبلوماسيين والسياسيين والمهتمين بحاضر ومستقبل الوجود العربي الإسلامي (19).

 

وهو صاحب كتاب : «من الثورة السياسية إلى الثورة الاجتماعية» الذي نفدت نسخه كلها من الأسواق.

 

وقد حلق الأستاذ عبد الهادي بوطالب في المجلدين اللذين أصدرهما أخيرا بعنوان : «المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية»، فإن هذا الكتاب لم يكن مرجعا لطلبة مادة القانون وحدهم ولا مرجعا لأساتذة هذه المادة فقط ولكنه كان مرجعا لكل الباحثين الذين يهمهم أمر الدساتير والمجالس النيابية (20).

 

وقد توفق الأستاذ وتفوق كذلك في كتابه الذي صدر قبل سنة بعنوان «النظم السياسية العالمية المعاصرة» الذي قدم فيه نماذج من العالمين الرأسمالي والاشتراكي والعالم الثالث، وقد كانت المكتبة العربية والأجنبية في حاجة ماسة إلى هذا الكتاب (21).

 

وعندما تظهر للأستاذ عبد الهادي بوطالب  مذكراته تحت عنوان : «وجوه عرفتها» التي ضمنها خلاصة تجاربه وانطباعاته أثناء ممارساته لمختلف المناصب، واتصالاته بالعدد الكبير من ملوك ورؤساء الدول وأثناء مشاركته الفعالة في عشرات المؤتمرات واللقاءات الثقافية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أقول عندما تظهر تلك المذكرات فإننا سنتعرف على الكثير من الجوانب الخفية التي أسهمت في صنع التاريخ المعاصر، وإن ما عودنا عليه الأستاذ بوطالب، كل أسبوع طيلة السنتين الماضيتين من بنات أفكاره المبدعة التي يقرأها الناس في وقت واحد بمختلف القارات ليعطينا فكرة أولى عن المذكرات المرتقبة.

 

أيها السادة الزملاء،

 

دونكم نمطا فريدا من أنماط المعرفة المزدوجة في بلادي، ودونكم علما من أعلام السياسة على المستوى الدولي !

 

 

وأنت أيها الزميل المحترم،

 

مرحبا بك بين معارفك الأقطاب الأعلام من كل الجهات، وفي كل الحقول والتخصصات، مرحبا بك في هذه الدار التي أراد لها مبدعها وراعيها، حفظه الله، أن تكون منتدى لأمثالك من الذين ينعمون بحصافة الرأي وبعد النظر ودماثة الخلق وسعة الصدر، ودونك زملاؤك الذين ينتظرون منك التحية والسلام.

شهادات
السيرة الذاتيه

نبذة عن حياة الفقيد الأستاذ عبد الهادي بوطالب

رسالة وأهداف

مؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري

مقالات وندوات
مؤلفات
المركز الإعلامي